حلب..دماء في مزادات علنية!
بات الموت صديقاً «دائماً»، قطن بينهم دون أن يدعى، فتحولت القذائف إلى «موسيقى تصويرية» تعزف في خلفية مشهد حياتهم اليومية التي قضوها بين نزوحٍ- في تغريبة طويلة- وبين خيارات للموت تتيح لك «ديمقراطيته» إما الموت بقذيفة، أو غرقاً على أحد القوارب، أو قهراً من يوميات حياة صعبة.
أقام الخوف حواجزه في حلب ليفرض، هو الآخر، أتاوات الدم على السوريين. أما قلب المدينة المحاصر، فتحول إلى مرمى أهداف مباح للقتل والموت. ومع ذلك، تبقى منطقة بني زيد «البؤرة الأخطر»، فعلى امتداد المناطق الواقعة تحت مرمى أهداف مسلحيها، امتد الحزن والموت في أحياء الخالدية وشارع النيل وشارع تشرين والسبيل والموكامبو والأشرفية، حاصداً الأرواح ومهدداً الحياة فلا يبقي ولا يذر.
دفع الدماء على «بيغ بن»
واقع حاصر المواطن انتفت فيه كل مقومات الصمود، فبدا أمامه كل صمود هو معجزة. أعظم القرابين التي دفعت، كانت في حي الأشرفية أحد الأحياء الذي اختصر ألوان المدينة يوماً ما، بات اليوم لوناً واحداً حزيناً.
«نعيش رعباً دائماً وحالة لا تطاق، ناهيك عن الدمار الذي خلفته الحمم المبتكرة التي جرى التفنن في صنعها، من جرار الغاز إلى مدافع جهنم، ويأتي نبأ مقتل أحد المسلحين ليتحول إلى كارثة علينا»، تقول السيدة عروبة، التي تقطن مع عائلتها في حي الأشرفية. وتضيف زينب: «هل علينا دفع دّية الدماء دماءً؟؟ ففي يومٍ قتل فيه أحدهم ذهب العشرات ضحايا، كنا نحن من دفع الثمن موتاً ونزوحاً، ولا ندري متى سننتهي».
«الحفلة على بيغ بن» هي ما اصطلح الناس عليه عند الحديث عن القذائف التي تنهال عليهم فترة الظهيرة، أو ذروة حركة المدينة، بسخرية من دقة توقيتها وكأنها تسير على دقات «بيج بن»، لتعلن موعد الرعب والخوف.
عبارة نطقها حسن بألم أثقل شفتيه: «مسلسل القذائف يبدأ من الثانية عشرة حتى الخامسة، أي في أوقات ذروة حركة الموظفين والطلبة، لنعيش حالة تربص من أية جهة سيوافينا الموت، ونحن نحسب خياراتنا في الحياة إن بقينا على قيدها». أما «أبو لوركا»، فتحدث عن يومياته بسخرية فاقعة: «الحفلة تبدأ لترقص الدنيا على وقع القذائف» لكنها سخرية بدت جدية حين قال: «يستطيعون قتلي وهم على بعد كيلومترات، لكن كل ما أخشاه أن يدخلوا المدينة، فماذا سيفعلونه بي وبأسرتي؟؟ ونحن رأينا ما فعلوه بغيرنا، وسط إشاعات أفقدتنا صوابنا، دون وجود أية تطمينات أو حلول على الأرض».
جيل يقهر الواقع
سلافا، طالبة جامعية، تحدثت بيأس ساخر: «كنا نحلم بالجامعة لنحقق طموحاتنا ولتأمين مستقبلنا، اليوم أدرس لأهرب من واقعي، وأحياناً لأقهر خوفي وأحارب تلك اللحظة التي أقف بها على مفترق طرق بين حياة أو موت». أما أيهم، وهو طالب في الصف التاسع، فيصف لنا سوريالية المشهد: «وأنا في طريقي لأقدم امتحاني، سقطت قذيفة في أحد الشوارع أمامي، لم أستطع التراجع أكملت طريقي ومشهد الأشلاء احتل ذاكرتي، وأنا أجيب على أسئلة الامتحان، شعرت بالذنب، وكأنني أكتب بدماء زملائي الذين قضوا، لم يعلموا أنهم سيسلكون طريقاً آخر».
الحل السياسي مطلباً
أم أمين، امرأة في الخمسين من عمرها تقول لـ«قاسيون»: «نكذب عندما نقول أننا اعتدنا أصوات المدافع، لم نعتد، فما زال الخوف يعتمر قلوبنا. مع كل دوي قذيفة أهرع إلى بناتي فأراهن وقد تغيرت ملامحهن رعباً، هذه الحرب جعلتنا نهرم باكراً، وستقضي على عمر بناتي وهنّ في عمرك نفسه» قالتها وقد انهمرت دموعها قبل أن تعقب: «بدنا حل..!».
بدوره، يقول صبحي، عامل النسيج الذي أفقدته الحرب عمله: «تسألون عن حلب التي تبيض الذهب، أم التي طواها النسيان وذهب؟»، ليعلق أبو علي، صاحب أحد محال البقالة: «أنتم ترون بأم أعينكم أحوالنا، لكن هنالك سؤال يحيرني، هل من أحد يرانا خارج حلب؟ أنا أتابع الأخبار، عندما كان هناك حديث عن حل في حلب استعدت الأمل، فرغم سنيني السبعين تعلقت بأمل نجاح المبادرات علها تنهي الكارثة، فنحن نريد أي حل. نعلم أنه لو لم يفرض حل مثل هذا لن ننجو»، وعند سؤالنا له عن الحل السياسي قال: «بدنا أي حل، يا عمي الحرب مارح تخلص من دون تنازل، أنا هيك بفهم الأمور».
كان ذلك رصد مؤلم لواقع مواطني حلب، الذي بات حالهم كحال مدينتهم منذ أربعة أعوام، وهم قابعون في عنق الزجاجة تتخبطهم أعاصير الحرب من كل صوب، ويتجرعون مرارة اللاحياة، وفي جعبتهم قائمة ملؤها الانتظار، صباح جديد يمطر دماً بمدافعه الجهنمية وبراميله، انتظار الكهرباء والماء وعودة الإنترنت.. انتظار حل ينهي الكارثة.
إن تأخير الحل الوحيد للأزمة السورية ككل، ألا وهو الحل السياسي، يعني استمرار الكارثة الإنسانية وتعميقها، لأن الحالة المأساوية التي وصل إليها الشعب السوري عموماً والحلبي خصوصاً، تتطلب الذهاب الفوري نحو الحل السياسي واجباً وضرورة وطنية قصوى، بوصفه الترياق الوحيد الشافي لهذا الجرح الدامي، ما يعني البدء بالمهمة الثلاثية رقم واحد: وقف التدخل الخارجي، وقف العنف، إطلاق العملية السياسية.