العملية التربوية والتّعليمية واقعٌ مرير.. فساد وظلامية..!
على الرغم من التطور العلمي والتقني، وتطور أساليب وأدوات التعليم الحديث، ما زال الكتاب عموماً، والمدرسي خصوصاً، أحد أهم أركان العملية التربوية التعليمية، واكتساب الثقافة والمعرفة على الأقل في بلادنا.. بينما قطعت الكثير من الدول مراحل كثيرة في تجاوز الكتاب ودوره، باستخدام أساليب وأدوات الكترونية، تتيح للإنسان الحصول على العلم والمعرفة، في أي مكان، وفي أي زمان بيسرٍ وسهولة..!
شهدت السنوات العشر الأخيرة، تراجعاً كبيراً أقل ما نقول عنه، إنه بات واضحاً للعيان في المستوى العلمي والمعرفي، بسبب السياسات التربوية والتعليمية الليبرالية التي اتبعت.
واقع مرير
أدّت هذه السياسات إلى تراجع دور الدولة والدّفع نحو الخصخصة وارتفاع التكاليف، وحرمان عشرات الآلاف من التلاميذ والطلاب الفقراء، من التّعلم واكتساب المعرفة، في مختلف المراحل، بدءاً من الروضة إلى المرحلة الابتدائية فالمتوسطة فالثانوية، وحتى الجامعية وما بعدها..
وهذا ما أدّى إلى ازدياد نسب الجهل والتسرب والغش وشراء المواد والشهادات والدروس الخصوصية وغيرها.
الفساد والظلامية والانتهازية
كما سمحت هذه السياسات في تغلغل الأفكار الظلامية والانتهازية، ناهيك عن النهب والفساد الكبير الذي استشرى في مختلف جوانب العملية التربوية والتعليمية، ولعل أكثرها وضوحاً كانت عملية إعداد وطباعة المناهج الحالية، والتي تمت برعاية الوزير الأسبق للتربية علي سعد..!
هذا قبل الأزمة المستمرة منذ ما يقارب السنوات الأربع، أمّا خلالها، فحدث ولا حرج.. سواء باستمرار السياسات الحكومية ذاتها، من قبل وزارتي التربية والتعليم العالي، أم من ممارسات المجموعات المسلحة والتكفيرية، وخصوصاً «داعش» وأخواتها في المناطق التي سيطروا عليها وأصبحت خارج سيطرة الدولة، حيث أغلقت المدارس والكليات الجامعية في دير الزور والرّقة ومنعت الفتيات من التعلم، ومنعت تدريس المواد العلمية والثقافية والفكرية والاجتماعية، كالفلسفة والتاريخ والجغرافية وكل ما يعمق الوحدة الوطنية، واقتصرت على القرآن واللغة العربية، وفق رؤيتهم الظلامية..!؟
الكتب بين القلة وارتفاع الأسعار
لن نتناول كثيراً من الواقع الاقتصادي الاجتماعي وانعكاساته السلبية على جوانب العملية التربوية والتعليمية بالتفصيل، فهذا يحتاج إلى أبحاث ومجلدات، كذلك لن نتناول ممارسات ونهج المجموعات التكفيرية اتجاهها، فهذا مفروغ منه، لأنّ أهدافها باتت واضحة للعيان، وأثارت وتثير استياءً وغضباً كبيراً لدى المواطنين والمعلمين والتلاميذ، وبرزت أشكال من الاحتجاج العلني ضدّها، كالتظاهرة التي حدثت في دير الزور في الخامس من هذا الشهر، وشارك فيها التلاميذ والتلميذات ومعلماتهم وأمهاتهم بمطلب واضح: «بدنا المدارس.. بدنا المدارس..!».
لكن أن تعلن وزارة التربية قبل افتتاح المدارس منذ شهرين تقريباً، عن انجاز استعداداتها للعام الدراسي الحالي، على الأقل في المناطق الآمنة والتي ما زالت تحت سيطرة الدولة، بينما الوقائع تبين عكس ذلك، فهذا يحتاج إلى مساءلة ومحاسبة مباشرة.. فغالبية الكتب لم تصل إلى المدارس إلاّ بعد شهرٍ تقريباً في غالبية المحافظات، وبعض التلاميذ استلم، وآخرون للآن لم يستلموا، وقسم منها وصل بعد شهرين، وكثير من الأهالي اضطروا إلى مراجعة مراكز توزيع المؤسسة العامة للكتب المدرسية، وشراء ما تبقى من الكتب لأبنائهم منها، ومنها لم يكن متوفراً، وعلى سبيل المثال: كتاب الرياضيات للصف السابع في التعليم الأساسي استكمل وصوله إلى مدارس حي ركن الدين في دمشق يوم الخميس 14/11، والأنكى من ذلك، أن الأسعار تغيّرت، والكتاب ذاته سعره المكتوب على غلافه 180 ليرة، بينما بيع لهم بـ 255 ليرة، علماً أن الكتاب طباعة العام الماضي وليس طبعةً جديدة.. ولدى سؤال المسؤول في المركز الموجود خلف جامع الإيمان في منطقة المزرعة بدمشق، أجاب: «هذا سعره الجديد وليس من عندي اسأل المؤسسة والوزارة..»!؟
والشيء المهم أن الاختبارات النصفية لهذا الفصل الدراسي قد بدأت، ولمّا يستكمل التلاميذ كتبهم بعد، فكيف يمكنهم أن يقدموا اختباراتهم..؟
ماذا بعد..؟
ما ذكرناه هو غيضٌ من فيض، ولا شكّ أنّ الظروف الاستثنائية والأزمة التي تمر بها سورية لها انعكاساتها على مختلف جوانب الحياة والمجتمع، لكن استخدامها شمّاعة لتعليق كل ما يحدث، وتغطية «السماوات بالقباوات» كما يقول المثل الشعبي، والسكوت عن السياسات والممارسات السابقة والمستمرة، وما رافقها من نهب وفساد متعمد، وارتجالية وسوء تخطيط.. و.. و.. ستكون تأثيراتها أكثر كارثية من الواقع الحالي، وبات ذلك يتطلب مواقف جدية وواضحة، وإجراءات مباشرة وفورية واستثنائية، لوقف التراجع العام في العملية التربوية التعليمية، ومحاسبة علنية للمسؤولين عن ذلك أينما كانوا ومهما علت مراكزهم ومسؤولياتهم.. وتغيير السياسات الليبرالية عموماً والتربوية التعليمية خصوصاً.. هذا إذا كانت هناك إرادة جدية للحفاظ على وحدة الوطن والشعب.