دير الزور.. كالعِيس يقتلها الظّمأ..!
أنّ تقل الأمطار ويتزايد الجفاف وتعطش المدن والقرى، يمكننا تفهم ذلك.. رغم أنّ ذلك يمكن الاستعداد له، والتخفيف من آثاره، لو أنّ هناك سياسات صحيحة. لكن أن تعطش وأنت على نهرٍ، وأن تذهب الأمطار سُدى وتتحول من نعمةٍ إلى نقمة، فتلك مسألة أخرى..!
هذا الكلام ينطبق على غالبية أنحاء الوطن، في ظروف الأزمة، أمّا قبلها فلكل منطقةٍ حكاية ولكل حكاية شجون كثيرة، نتيجة التهميش السابق والسياسات الليبرالية اللاحقة..
دير الزور والعطش الدائم
على ضفاف نهر الفرات ترقد محافظة دير الزور ريفاً ومدينةً، ببلداتها وقراها ومناطقها ومدنها، حيث ولدت عشرات الحضارات في ممالك المدن، واتبعت أساليب في الري والزراعة تعتبر متقدمةً آنذاك.. لكن أن تشكو من العطش في القرن الحادي والعشرين مع تقدم العلم والتكنولوجيا، وتوفر الإمكانات، فهذا ليس طبيعياً وليس عشوائياً..! وإنما سببه الأساس التهميش والتلوث والنهب والفساد الذي يحول النعمة إلى نقمة كمياه نهر الفرات والنفط..!؟
محطات تنقية بدائية
على الرغم من إنشاء العديد من محطات في المدينة وريفها قبل الأزمة، فإنّ هذه المحطات ما تزال تعمل بالطريقة البدائية، وليس بالطرق الحديثة كالمعالجة (بالأوزون) وهي استجرار المياه الخامية من نهر الفرات، ووضعها في أحواض ترقيد، وإضافة مادة الكلور المعقمة بنسب غير دقيقة، أو بتمريرها عبر فلاتر بسيطة في المحطة الرئيسية في غرب مدينة دير الزور في قرية «عياش».. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لم يجر عند إنشاء هذه المحطات وشبكات التوزيع، التخطيط لسنوات قادمة، ولحظ التوسع المستمر والزيادة السكانية، وتنوع الحاجة للمياه النقية سواء للشرب أو مختلف الجوانب الخدمية والإنتاجية الأخرى، مما انعكس على قلة توفير حاجة المواطنين من هذه المياه واضطرارهم إلى شرائها بأسعار عالية، ناهيك أن نسب التلوث في نهر الفرات قد تضاعفت مراراً، وسببت انتشار أمراضٍ كثيرة منها الفشل الكلوي وغيره، وهذا تطلب معالجة جدية لم تحدث، بسبب الفساد الكبير والذي تناولناه سابقاً، وخرج المسؤولون عن ذلك منها، كالشعرة من العجين عند إحالتهم إلى القضاء، بسبب حماتهم من الفاسدين الكبار..!؟
هذا قبل الأزمة المستمرة منذ ثلاث سنواتٍ ونصف، أمّا خلال الأزمة فقد خرجت العديد من المحطات من الخدمة، بسبب خروج مناطق تواجدها من سيطرة الدولة، وبالتالي تضاعفت المعاناة مراتٍ عديدة، وأصبح العطش دائماً، وعاد السكان إلى أساليب الري القديمة باستجرار مياه نهر الفرات وتعقيمها عبر غليها لعل وعسى تخفف من التلوث وهذا يمكن أن ينجح نسبياً مع الجراثيم والمواد العضوية، أما المواد الكيماوية والإشعاعية، ومنها مخلفات التقطير البدائي للنفط فتبقى كما هي..مما أثر حتى على الولادات وسبب التشوهات الخلقية للأجنة، لدى الإنسان والحيوان..!؟
الأمطار والعكارة
شهدت محافظة دير الزور الأسبوع الماضي أمطاراً غزيرة كما غالبية أنحاء الوطن، ورغم تفاؤل المواطنين بها إلاّ أنها سببت أضراراً وأخطاراً كبيرة، وانعكس ذلك أيضاً على مياه الشرب المستجرة من نهر الفرات ( حيث بلغت نسبة العكارة ( ( 850 ntu في كلّ ملم3 علماً أنّ النسبة المسموح بها في مياه الشرب ( (25 ntu ، أي ما يعادل 33 ضعفاً، كما أدى ذلك إلى خروج محطة طريق الشام من الخدمة مؤقتاً، وتخفيض إنتاج المياه في المحطة الرئيسية للمدينة من 110 آلاف م3 إلى 30 ألف م3 أي بنسبة 70% ولتعويض ذلك جرت زيادة مدة الترقيد من نصف ساعة إلى 3 ساعات وهو ما انعكس على انخفاض نسب الضخ والضغط).
كما صرح بذلك مدير مياه دير الزور لوكالة سانا المهندس ربيع العلي. وهذا ما يسبب ليس نقص بمياه الشرب وإنما أخطاراً صحية للمواطنين فيزيد من أمراض الفشل الكلوي وغيرها كما يسبب تكلسات حتى في أنابيب شبكات مياه الشرب ناهيك أن قسماً كبيراً منها تهتك بسبب القصف، وأنّ محطات التنقية الموجودة بتقنياتها القديمة عاجزة وليست غير قادرة فقط على التعامل مع هذه الحالة..فتحولت إلى نقمة بدل أن تكون نعمة..!
الأمطار والأخطار
كما نشأ عن الأمطار سيول جارفة، في الوديان المنحدرة إلى نهر الفرات، وأدت إلى قطع طريق دير الزور/ تدمر جنوباً، وبلدات معدان عتيق والكصُبي والطريف شمال غرب، وكما هو معروف ومتكرر سابقاً، أدّى ذلك لجرف سيارات وحافلات وتدميرٍ كبيرٍ للمزروعات في تلك المناطق..وكان يمكن منذ سنوات تدارك ذلك ببناء سدود تخزينٍ وحماية، تؤمن حياة المواطنين ومنازلهم ومزروعاتهم وحيواناتهم، وكذلك توفير مياه للبادية وللثروة الحيوانية وأهمها أغنام العواس التي تعتبر ثروة ذات قيمة مطلقة في سورية ولا ينافسها عليها أحد، ترفد الاقتصاد الوطني بمبالغ كبيرة، وتحقق الأمن الغذائي، كما تنمو النباتات البرية التي تخفف من زحف التصحر..
لا شكّ أنّ معاناة المواطنين من العطش في محافظة دير الزور، والناجمة عن الإهمال والنهب والفساد وسوء التخطيط قبل الأزمة، قد تضاعفت كثيراً بعدها بسببها وبسبب سيطرة المسلحين التكفيريين الذين يعيقون ويمنعون حلّها والتخفيف منها، وينطبق على دير الزور وسكانها بيت الشعر:
«كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ...
والماء على ظهرها محمول».