الرقة.. القطن في مهب الريح الصفراء..!

الرقة.. القطن في مهب الريح الصفراء..!

كانت سورية بلداً منتجاً للمحاصيل الإستراتيجية كالقمح والقطن، إضافة للمحاصيل الأخرى كالشوندر والذرة الصفراء والزيتون والحمضيات والفواكه والخضار..وكانت تحقق فائضاً يتيح لها أن تستفيد من العديد منها، في الصناعات التحويلية كحلج القطن وغزله ونسيجه والسكر وما يرافقه من إنتاج مواد أخرى، وصناعات غذائية كمعامل الكونسروة والزيوت وغيرها.. وهذا ما حقق لها شبه اكتفاء ذاتي، وأمناً غذائياً وأماناً اجتماعياً،واستقلالاً نسبياً في قرارها السياسي. على الرّغم من كلّ النهب والفساد، وأنّ غالبية علاقاتها مع الغرب الرأسمالي..!

تراجع مقصود

ومنذ بدء تطبيق سياسة الانفتاح بالمرسوم رقم 10 وما تبعه من سياسات ليبرالية،وخاصة تحرير التجارة وتحرير الأسعار وأهمها المحروقات، بدأ تراجع دور الدولة في الحياة الاقتصادية الاجتماعية إضافة للتهميش السياسي الذي أضعف الرقابة الشعبية، وأدّى إلى اتساع النهب والفساد وتدمير الزراعة وتراجع الإنتاج بشقيه النباتي والحيواني، وانعكس ذلك على الصناعات التحويلية والغذائية، وبالتالي على دور الدولة كشبكة أمانٍ اجتماعي، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة أم الرذائل، وكان ذلك سبباً أساسياً لانفجار الحراك الشعبي في الأرياف والمدن الريفية .

وسبق أن تناولنا موسم القمح وموسم الخضروات في الرقة، وما ينطبق عليهما ينطبق على القطن، وما يحصل في الرقة يحصل في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة والمناطق المتوترة وحتى في بعض المناطق التي تحت سيطرة الدولة نتيجة السياسات الزراعية ونتيجة ظروف الأزمة العامة .

معاناة جديدة ومركبة

بالإضافة لارتفاع تكاليف الزراعة والإنتاج من حراثة وري وبذار وأسمدة وأدوية مكافحة وأكياس وغيرها وانعكاسها على الإنتاج وعلى الفلاح وعلى الاقتصاد نتيجة السياسات الزراعية، يعاني موسم القطن في ظلّ الأزمة، من تراجع كبير في المساحات المزروعة، التي وصلت إلى أدنى من الثلث، وكذلك نقص حاد في مياه الري الكبيرة التي يحتاجها، بسبب انخفاض مستوى بحيرة السد وهيمنة المسلحين التكفيريين عليها والفوضى والجهل، وخروج مشاريع عدة من العمل كمشروع الهشم الذي تبلغ مساحته 28 ألف هكتار، كما جرى منع الفلاحين من زراعة المحاصيل التكثيفية كالذرة الصفراء، وكذلك ارتفاع أجور العمالة الزراعية بسبب ندرتها بعد هجرة الأهالي وحاجة القطن إلى تعشيب لعدة مرات، وأدوية زراعية ومكافحة متعددة، منها ما يتعلق بالحشرات التي تصيب الأوراق أو أجراس القطن أو لتثبيت الأزهار،ويضاف إلى ذلك الظروف البيئية الطبيعية أو الناجمة عن التلوث وانتشار الحرّاقات البدائية لتكرير النفط في ريف المحافظة الجنوبي والشرقي،ولعل من الأشياء الخطيرة نوعية البذار المستخدمة والمهربة من تركيا، بديلاً عن البذار المناسبة للبيئة السورية والمسماة حسب المناطق كبذار رقة 5 وحلب ودمشق ودير الزور،وقلة العمالة الزراعية وارتفاع أجورها نتيجة هجرة الأهالي خوفاً من المسلحين التكفيريين أو من القصف والتفجيرات والقتال..

مشكلة التسويق

ترتبط زراعة غالبية المحاصيل بتسويقها وتسعيرها، وعادة تكون مساحات الأراضي المزروعة بالقطن أقل من القمح بسب ارتفاع تكاليف زراعته والجهد المضاعف الذي يحتاجه من الفلاح،وأساليبه البدائية غير العلمية في الزراعة وما نجم عنه من ضعف في التربة، ورغم أن الدولة قدمت للفلاحين ألف ليرة تشجيعية على زراعة كل دونم إلاّ أن المساحات كانت أقل بكثيرٍ من السابق، والأسعار رغم زيادتها كانت أخفض من الأسعار العالمية، ولا تحقق للفلاح ربحاً بسبب ارتفاع التكاليف، وبعد سيطرة داعش على الرقة في الشهر الثاني من السنة الماضية والصراعات بين المسلحين والتكفيريين ونهب المحلج وحرق الأقطان ذهب غالبية محصول القطن المسوق للدولة أدراج الرياح وهرب قسم مما تبقى إلى تركيا عن طريق تجار الأزمة حيث بيع الكيلو بـ105 ليرات وبعد إغلاق داعش للحدود وسيطرتها عليها انخفض سعره إلى 80 و70 ليرة، وفي هذا العام ستكون مشكلة التسويق شبه معدومة لعدم وجود محلج ومراكز استلام ولصعوبة وارتفاع تكاليف النقل لدير الزور، وقد وجدت بعض المحالج الصغيرة الخاصة وهي تغطي جزءاً بسيطاً من حاجة بعض الأسر للاستخدام المنزلي للقطن .

المجهول مخيف..!

بات واضحاً أن محصول القطن هذا العام يدخل في المجهول، مع غياب دور الدولة شبه التام وسيكون له انعكاسات اقتصادية عامة، وانعكاسات خطيرة على حياة ومعيشة الفلاح، فهو إن أنتج سيكون إنتاجه قليلاً وأسعاره رهينة الأوضاع العامة والأزمة وتحت رحمة تجارها ناهيك عن ارتفاع تكاليف زراعته وتسويقه وصعوبة تخزينه..ورغم هذا المجهول المخيف سيزرع وينتج ويخسر ليبقى حيّاً على الأقل، وهذا يتطلب العمل للخروج من المجهول بالتأكيد والعمل على تحقيق المصالحة والحلول السياسية المحلية، والعمل على تقديم كل المساعدة للفلاح من رفع أسعار شراء القطن وتحمل الدولة لتكاليف النقل إلى المساعدات الغذائية الإنسانية في انتظار الحل الجذري والشامل .