نحو تجذير ثقافة الإصلاح ومكافحة الفساد
تتسم المرحلة التي تمر فيها سورية الغالية بحساسية فائقة تستدعي مناولة الأسباب المؤدية إلى إنتاج الأزمة بطريقة غير مأزومة، وبما يؤدي إلى تجفيف روافد الأزمة قدر المستطاع. وعلى هذا الصعيد، نعتقد أن الممارسة المزمنة في عدم إنتاج المعرفة والمترافق مع محدودية التسليف الديمقراطي، قد حوّل منظومة التنمية إلى نظامٍ لإنتاج الأزمات ودفعها نحو الأمام. يتطلب إنتاج المعرفة توطين وتمكين ثقافة النهضة والتنمية.
وبمراجعة شاملة لعدد النهضويين في سورية عبر القرن العشرين بأكمله، نجد أنه لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وعليه، اتسمت المراحل السابقة بالرضوخ والتسليم لاستبداد الموروث الغيبي والقبلي. وللتدليل على ذلك، نجد أن الإعلام السوري، وحتى هذا التاريخ، يقتصر في تعامله مع الآخر على زعماء العشائر والشعائر، ويبدد، بقصدٍ أو بغير قصد، فرصةً كبيرة لمساهمة كل القوى الوطنية والتقدمية في تشخيص الأزمة ووضع آليات للخروج منها. إن الممارسة المتمثلة بإشراك الشعب في الأزمات وإقصائه عن التنمية أدت وستؤدي إلى تقزيم المنظومة ككل وتحويلها إلى إجراء دون أية ريعية تنموية. هذا من جهة، من جهةٍ ثانية، نعتقد أن صفة الشمولية يجب أن تقتصر فقط على عملية التنمية والدفاع عن سورية. وفي ضوء ذلك، فإن الفرصة ما تزال سانحة لتحويل سورية الغالية إلى طاولة مستديرة تتسع لكل إسهامات مكونات الشعب السوري بكل أطيافه السياسية والفكرية، على الرغم من تضيّق ألوان هذه الأطياف كنتيجة لتضيّق هوامش الممارسة الديمقراطية. إذ أنه، ونتيجة هذا التضيّق في الممارسة الديمقراطية، طفت إلى السطح مفرزات مرَضيّة متمثلة في الأداءات الطائفية والعشائرية والجهوية المستندة إلى دعم مهمشي عملية التنمية كخيارٍ انتحاري ينتهجه الأكثر تضرراً من السياسات الليبرالية التي مارسها الفريق الاقتصادي في الحكومة السابقة. إذ أن تمادي الفريق الاقتصادي في الحكومة السابقة في تجريد الشعب السوري من مكتسباته، وكذلك استشراء ظاهرة الفساد المالي والسياسي والاجتماعي، مرتبطان بتضيّق الممارسة الديمقراطية وبغياب الشفافية كنتيجة لتدهور منظومة القضاء، هذا القضاء الذي لم يفلح حتى هذا اليوم في إعادة النظر والتقييم لملف المسرّحين من عملهم وفقاً للمادة (138) من القانون الأساسي السابق للعاملين في الدولة. ومن المعطيات المتوفرة، نؤكد بأن هذه المادة قد استخدمت كوسيلة أمنية – سياسية لإقصاء المئات من أصحاب الرأي المناهضين للفساد الذي يمارسه، وحتى هذا التاريخ، بعض المدراء العامين الذين حولوا، وبوقاحة، منشآت القطاع العام إلى مزارع شخصية لهم. لقد آن الأوان، وبالسرعة القصوى، منح كل المسرحين وفقاً للمادة (138) من القانون الأساسي السابق للعاملين في الدولة ووفقاً للمادة (137) من القانون الأساسي الحالي للعاملين في الدولة حقهم في التقاضي أمام القضاء السوري وبالشفافية المستحقة، مع التنويه هنا إلى ضرورة التعجيل في إلغاء هذه المادة البوليسية والمتعارضة تعارضاً صارخاً مع مواد الدستور السوري. إن تجذير ثقافة الإصلاح ومكافحة الفساد يتطلب تبني منظومات مفتوحة لإدارة الاقتصاد الوطني يكون أساسها المثنوية: المؤهِّل – الأداء، مع التأكيد على استقلالية هذه المنظومات عن الولاء الحزبي والدعم الأمني، فالولاء يكون للوطن فقط. لقد بات واضحاً أهمية الانتقال بإدارات عملية التنمية من أداء المدير العام إلى أداء مجالس الإدارة المحررة من الهيمنة الحزبية والأمنية والشخصية. وعلى هذا الصعيد، يمكن اعتبار تجربة الإدارة في الجامعات السورية الحكومية كتجربة رائدة يمكن تعميمها على إدارة عملية التنمية شريطة التخلي عن الآليات المتبعة لتعيين الإدارات العلمية الجامعية، فأية إدارة علمية جامعية محددة بسنتين فقط لرئاسة القسم ونواب عمداء الكليات وعمداء الكليات ونواب رئيس الجامعة وبثلاث سنوات فقط لرئيس الجامعة، ويمكن تجديدها مرة واحدة فقط. كما ذكرنا، فإن عملية التنمية ذات طابع شمولي، إلا أنها يجب أن تحافظ على علمانيتها المبنية على الاستفادة القصوى من نتائج الثورة العلمية – التقنية وبما يعزز التقدم الاجتماعي والتوزيع العادل للثروات. فعلى الرغم من حساسية المرحلة التي تمر فيها سورية حالياً، فما زال شعار: «سورية الله حاميها» هو البروباغندا المرفوعة، بقصد أو بغير قصد، كمفهوم عائم لتجاوز الأزمة. أجل، تتطلب هذه المرحلة، وكل المراحل التالية، توطين ثقافة الديمقراطية والاعتراف والتحاور مع الآخر وضمان مساهمته في عملية التنمية ومشاركته في الحياة السياسية العامة. حينها فقط، تُنقل مهام مكافحة الفساد من أجهزة الدولة المتلكئة إلى الانفراج الشامل في الحياة السياسية السورية. إن الحل الأمني هو إجراء جراحي متأخر للخروج من الأزمة، لكنه يضمر بين ذواته إمكانية توليد أزمات أخرى أكثر حدّة. وحدها الديمقراطية قادرة على إرساء حياة طبيعية للمواطن السوري الذي يقدّر عالياً صمود سورية في وجه القوى الظلامية والصهيونية والإمبريالية. وإن كان هناك توجس غير مبرر من الديمقراطية، فإن ذلك هو المؤامرة. فلقد أثبتت التجارب السابقة، وبما لا يدع مجالاً للشك، بأنه، وبغياب الانفراج السياسي الشامل، فإن ذلك يترافق مع ضمور للقوى العلمانية والمستنيرة الرافعة الحقيقية للتنمية الشاملة.