لا يموت حق : التوقيف الاحتياطي

لا يموت حق : التوقيف الاحتياطي

إن الحرية الشخصية هي أغلى ما يملكه الإنسان باعتبارها تشكل أهم ملامح شخصيته ووجوده فهي ليست ترفاً ولا مكملاً من مكملات الحياة. إنما هي جزء رئيس من مقومات  إنسانيته وهي بالوقت ذاته ضرورة أساسية لوجوده.

هذا ما دفع بأغلبية المواثيق والدساتير والقوانين الجزائية في جميع أنحاء العالم للاهتمام بها ووضع الضوابط والنظم اللازمة لصونها وحمايتها.

وقد شكلت حرية المواطن أهم ما سعى إلى حمايته الدستور السوري الصادر عام 2012 بتكريسه لأسس هامة جداً وهي أن كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم في محاكمة عادلة – المادة 51 وأيضاً في المادة 53 فقرة 1 ((لا يجوز تحري أحد وتوقيفه إلا بموجب أمر أو قرار صادر عن الجهة القضائية المختصة))

ومما لا خلاف حوله أن التوقيف الاحتياطي ليس نوعاً من أنواع العقوبات وإنما هو تدبير احتياطي وقائي شرع لغايات محددة لا يجوز مخالفتها أو تجاهلها وهذا ما ورد في مطالعة إدارة التشريع المؤرخة في 23/6/1959 حيث نصت:

((...وتتلخص هذه الأهداف التي استقر عليها الفقه والقضاء في الخشية من تواري المدعى عليه عن الأنظار عند تنفيذ الحكم الذي قد يصدر بحقه في المستقبل في حال إدانته، أو طمس معالم الجرم سواء كان ذلك بإغوائه شهود الحادث، أو اتفاقه مع شركائه أو للمحافظة عليه نفسه فيما إذا كان توقيفه أمراً ضرورياً لتهدئة خواطر الرأي العام وإلا اتخذ طابع التوقيف غير المشروع وأصبح أمراً خطيراً لأنه يجعل الموقوف عرضة للشك في نفسه وقد يحتفظ بذكرى سيئة عن العدالة مدى حياته)). وأيضاً لا يجوز بأية حال تحويل التوقيف الاحتياطي إلى عقوبة أو الخروج به عن الحدود والضرورات التي شرع أصلاً لأجلها باعتبار أنه لا عقوبة إلا على جريمة ولا جريمة إلا بنص وهذا مؤيد بالبلاغين الصادرين عن وزير العدل رقم 50 تاريخ 8/12/1953 والبلاغ رقم 13 تاريخ 7/2/1955..

إخلاء السبيل بحق، واجب على القاضي الذي ليس له أي سلطة تقديرية في هذا الصدد متى توافرت شروطه ولا يحتاج إلى تقديم طلب ( كتاب وزارة العدل رقم 18478 تاريخ 12/1/1970).

كما أن التوقيف الاحتياطي أمر يعود تقديره للقاضي إلا أنه يجب أن يطبق وفق الأسس التي شرع لأجلها حصراً باعتباره استثناء من الأصل ووسيلة وقائية لا تتضمن معنى العقاب وهذا مؤيد ببلاغ وزير العدل رقم 47 تاريخ 15/10/ 1965.

وحيث أن المشرع السوري لم يحدد مدة التوقيف الاحتياطي لجميع الجرائم، فهو لم يقل ((في جريمة كذا يجب أن لاتقل مدة التوقيف الاحتياطي عن كذا)) وإنما ترك تقدير ذلك لوجدان القاضي المحكوم أصلاً بالقواعد القانونية.

فالمشرع عندما منح القاضي الجزائي صلاحيات واسعة وترك له حرية الاقتناع بالأدلة وأعطاه صلاحية تقدير الظروف وموازنة الأدلة، ترك ذلك كله لوجدانه أولاً وبالوقت ذاته اشترط عليه أن تكون هذه القناعة وهذه الحرية مبنية على ما له أصل في القضية. 

لذلك فإن أي خلل قد يصيب إجراء التوقيف الاحتياطي يكون له تأثير خطير على مصير العدالة ويؤثر في البنيان الجزائي الإجرائي بشكل عام لأنه يصيب وبشكل مباشر حريات الأفراد ولأنه قد يلقي بأبرياء في السجون. والعدالة بالمطلق لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال إتباع بنيان إجرائي متوازن يتم تطبيقه ضمن إجراءات شكلية محددة تصون حقوق الدفاع وتحتاط لعدم الوقوع في التوقيف الاحتياطي التعسفي وفي سبيل تحقيق ذلك ومن أجل بلوغ الهدف الأساسي الذي من أجله قرر هذا الإجراء فإنه لا بد من تحقيق توازن عادل بين مصلحتين متقابلتين ومتعارضتين بالوقت ذاته وهما:

مصلحة المجتمع في معاقبة مرتكب الجريمة .

ومصلحة الفرد في حماية حقوقه وصون حرياته الأساسية  .

فالعدالة لا يؤذيها إفلات مذنب من العقاب بقدر ما يؤذيها إدانة بريء.