كل عضة بغصّة!

كل عضة بغصّة!

المتابع لما آلت إليه أحوال البلد، يدرك أن ما حدث ويحدث ليس أمراً عفوياً، بل بفعل أسباب متعددة تضافرت لتصنع هذا الواقع المؤلم الذي نعيش اليوم في كنفه، ومن الأسباب التي توضحت لكل ذي بصر وبصيرة سوء الإدارة التي نتجت ورافقت مرحلة «وضع الإنسان غير المناسب في مكان المسؤولية»، وسأقصر كلامي على مجال الإدارة في التعليم بوصفي معلماً لأكثر من أربعين عاماً، عايشت خلالها فصولاً منها، فمنذ أواسط ستينيات القرن الماضي صارت الإدارة حكراً على أعضاء الحزب الحاكم، وأعني بالإدارة هنا المديرين ومعاونيهم والموجهين في المدارس عموماً، ثم أضيف إليهم مسؤولو الشبيبة بعد إنشائها. ومازال الأمر هكذا حتى اليوم ..

لم يكن هؤلاء الإداريون بمعظمهم في مستوى وأهمية هذه المسؤولية المكلفة برفع سوية التعليم وتكوين الأجيال الكفوءة للنهوض بالوطن ليحتل مكانه اللائق، مع وجود ما لا يحصى من المعلمين ممن هم أفضل وأجدر.. ومن البدهي أن وضع الإنسان غير المناسب في موضع المسؤولية يجعل منه عاملاً وسبباً في ضعف العمل وترديه، لأنه يرى في كل من هو أجدر منه مزاحماً وكاشفاً لسوءته وضعفه، فيسعى إلى تشويه سمعة الآخرين الأنجح منه في الأداء والعمل، زد على ذلك أن «الإداريين» بأكثريتهم أخذوا مهمة مراقبة زملائهم في التعليم وبخاصة اليساريين، ومداراة الرجعيين الذين استفحل تواجدهم وتأثيرهم السيئ فيما بعد.

لقد أبعد العديد من اليساريين رغم نجاحهم البارز في عملهم عن سلك التعليم ونقلوا إلى وزارات أخرى، والأمثلة على ذلك متوفرة لمن أراد متابعة الموضوع. ومن تجربتي ــ شأن غيري من المعلمين ــ سأسرد بعض الأحداث، ولسان حالي يقول «شو بدي أتذكر منك يا سفرجل، كل عضة بغصة». وأذكر ثلاثة شواهد على ذلك:

الأول يعود إلى عام 1967 حين عينت مدرساً في محافظة دير الزور بعد نجاحي في مسابقة وزارة التربية، وقبيل انتهاء العام الدراسي، ونتيجة «للتقارير» المقدمة لم يثبت تسعة وتسعون مدرساً من الناجحين في المسابقة والمعينين مدرسين بقرارات من الوزارة في كل المحافظات وأنا واحد منهم، وعوملنا «كمدرسين» لساعات إضافية!!

الثاني ويعود إلى عام 1969 حين أعدت الاشتراك بمسابقة جديدة ونجحت وعينت مدرساً في ثانوية عفرين، وكالعادة استطعت اكتساب حب واحترام وثقة طلابي وأهلهم جراء الجهد الصادق والإخلاص والتفاني في العمل لرفع سوية الطلاب علمياً ووطنياً، فتواترت «تقارير الإدارة» بحقي، فصدر أمر بنقلي ــ قبل شهر من الامتحانات ــ إلى بلدة جرابلس، دون أي حساب لما سيحمله ذلك من إساءة لحق طلابي وبخاصة طلاب الشهادتين المتوسطة والثانوية، ومع ذلك جاء سجل نجاح طلابي مشرفاً فقد تجاوزت نسبة النجاح %85.

والثالث ويعود إلى عام 1973 وفي ثانوية ابن العميد بدمشق استطعت مع زملائي من المدرسين اليساريين كسب حب وتقدير وثقة طلابنا، وتوطدت بيننا أواصر العلاقة اللائقة كأصدقاء إلى درجة أننا قمنا ومع بداية الربيع وفي ايام الجمعة بتسلق جبل قاسيون صباحاً   -  كل جمعة مع صف من الصفوف -  لنمضي نهاراً جميلاً على قمة الجبل في أحاديث وحوارات تشمل كل اهتمامات وأمور وتطلعات طلابنا نحو مستقبل أفضل، وعند الظهر نقوم بطبخ «المجدرة» وتناولها تحت القبة الزرقاء، وأكثر من رافقني من المدرسين الرفيق صلاح زلفو. وكالعادة رفعت التقارير المستنكرة تلك العلاقة الحميمة بين المدرسين وطلابهم، العلاقة التي يتطلبها بل يفرضها واقع العملية التربوية السليمة وفي أحد أيام السبت وعند دخولي غرفة الإدارة وبحضور عدد من الزملاء المدرسين فاجأني المدير بمحاضرة انفعالية تعبر عن «رفضه» لما «نقوم» به في أيام الجمعة، واستفاض في حديثه المتوتر عن «التعليمات» التي تحظر أي نشاط للطلاب خارج إطار الشبيبة، وتحرّم أي دور للمعلم مع طلابه باستثناء إلقاء الدرس في الصف... وهذا ما «قرقني» فعلاً، فقلت له: يا أستاذ كل ما قلته لا علاقة له بما قمنا به، فنحن لم ننفذ نشاطاً أو رحلة أعدتها الشبيبة، وإنما قمنا كما يقوم أبناء مدينتنا يوم الجمعة «بسيران» إلى جبل قاسيون، فهل في ذلك جريمة تسيء إلى العملية التربوية...