مهن جديدة من رحم الأزمة..
مع تسارع وتيرة الأزمة في البلاد وتزايد العنف والعنف المضاد، واستخدام جميع الأطراف لجميع أنواع الأسلحة التي لم تستثن منازل المدنيين في كثير من المدن والأرياف السورية، صار الدمار والخراب في الممتلكات الخاصة للمواطنين المهجرين هو السمة الأعم ومحور أحاديث الناس الأطول على مدار الأسابيع الماضية، فبعد استقرار حال بعض المدن والنواحي من الجانب الأمني في المناطق المدمرة جزئياً، تحول الدمار إلى مصدر لكسب الرزق لعدد كبير من العاطلين عن العمل ممن يقبعون تحت خط الفقر والذين كانوا يعتمدون في ما مضى على كسب قوت يومهم من «حاويات القمامة» من خلال البحث فيها عن الخردوات و المواد التي يمكن إعادة تصنيعها مثل (الألمنيوم، والنحاس، والبلاستيك، والورق المقوى) التي يمكن بيعها،
هذه الشريحة التي كانت تمارس عملها ليلاً في ما مضى، بات من الممكن حالياً مشاهدتهم في النهار يبحثون بين ركام المنازل والأبنية المهدمة عما يمكن جمعه و بيعه، لكن المواد التي باتوا يبحثون عنها حالياً، لم تعد تقتصر على ما ذكر، فمعظم هذه المنازل هدمت فوق ما تحتويه من أثاث وممتلكات ثمينة تركها أصحابها عند هروبهم من الموت، كـ«الذهب، والمال» إضافة إلى الثياب وما بقي من أثاث في البيوت التي لم تدمر كلياً، وتلك التي دمر أحد جدرانها أو بقيت دون أبواب ونوافذ، نتيجة المداهمات، إضافة إلى الحديد الذي يعتبر الأكثر توفراً نتيجة هدم المنازل بالكامل.
فمن يمر بالقرب من هذه المناطق يمكن أن يلاحظ أعداداً كبيرة من هؤلاء الفقراء يبحثون بين الركام عن ما يسد رمقهم، كمنطقة «القابون» في القسم الملاصق لـ«كراجات البولمان» وغيرها من المناطق التي عاد إليها الهدوء النسبي، لينضم عدد كبير من أهالي هذه المناطق إلى شريحة العاطلين عن العمل، الأمر الذي تسبب بزيادة نسبة البطالة في سورية، وبالتالي زيادة عدد المواطنين الذين باتوا يعتمدون على هذه المهنة في كسب قوت يومهم بعد أن فقدوا مصادر رزقهم البسيطة، كـ«المحال التجارية البسيطة وسيارات الأجرة»..
أما أسباب هذه الظاهرة التي يمكن استقراؤها حتى الآن فتتمثل بـأنها كظاهرة أصلاً لا تعتبر جديدة في مجتمعنا، فهذه الشريحة التي تزاول مهنة «نكش القمامة» موجودة في سورية منذ عقود، لكن لم يكن من الممكن ملاحظتها بشكل كبير قبل الآن، بسبب اعتماد من يعمل بها على التنقل ليلاً، ويرجع تزايد أعداد المواطنين الذين باتوا يعتمدون على جمع المواد التي يمكن تكريرها، من الحاويات ومكبات القمامة، وحالياً من المناطق التي تعرضت لدمار، يرجع إلى عدة أسباب أهمها:
-1 ازدياد تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد جراء الأزمة وامتدادها الزمني.
-2 اضطرار عدد من المعامل و المنشآت إلى تسريح عدد كبير من عمالها، بسبب عدم القدرة على مجاراة الارتفاع المتزايد في أسعار المواد الأولية، وضعف القدرة على تصريف المنتجات نتيجة ضعف القوة الشرائية في السوق المحلية، وفقدان أسواق عربية ودولية نتيجة العقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها سورية.
-3 غياب الأمن وانتشار العنف الذي منع عدداً كبيراً من المواطنين من مزاولة عملهم، نتيجة قطع الطرق، وعدم السماح للعمال بدخول المناطق التي يعملون بها مما سيضطرون لأخذ إجازة دون راتب خصوصاً في القطاع الخاص الذي لا يراعي الظروف الأمنية المتردية.
-4 فقدان عدد كبير من المواطنين لمصادر رزقهم نتيجة الدمار الذي لحق بـ«محلاتهم و سياراتهم».
-5 تهجير عدد كبير من المواطنين من مناطقهم في كثير من المدن والمحافظات السورية.
أصحاب المهنة الأصلية
يتحدث (أبو محمد)- وهو من أصحاب هذه المهنة الأصليين وقد قضى فيها معظم حياته- عن سبب عمله بهذه المهنة قبل الأزمة، فهو ككثير من أصحاب هذه المهنة يقبعون تحت خط الفقر: «أنا من أصحاب الدخل المحدود أو شبه المعدوم ولدي عائلة مؤلفة من ثماني أشخاص علي تأمين قوت يومهم، فالمال الذي أحصل عليه من عملي كعامل في أحد المعامل لا يكفي لأعالة أسرتي، فأرباب العمل في القطاع الخاص كما هو معروف يستغلون حاجة الفقراء للعمل ويستنزفون جهد العامل لأقصى درجة بأجور قليلة جداً، لا تغني ولا تسمن من جوع، إضافة إلى صعوبة الحصول على وظيفة في القطاع الحكومي، ما دفعني منذ عشر سنوات تقريباً للعمل بجمع المواد التي يمكن بيعها من «حاويات المهملات، ومكبات النفايات كالبلاستيك والنحاس، وزجاج، وعلب المشروبات الغازية الفارغة وهي مواد يمكن تكريرها وإعادة استخدامها، وعليها طلب من المعامل.. فأنا أخرج كل يوم مساء بعد أن تخلد الناس للنوم (فالليل ستار) كما يقال، أتنقل بين الشوارع، بحثاً عن هذه المواد وجمعها، وبيعها للمعامل، فما نتقاضاه من مال نتيجة بيعها يعيننا على تأمين قوت يومنا».
مع نشوب الأزمة في سورية وانتشار الدمار في كل مكان أصبحت أتجه إلى هذه المناطق التي دمرت معظم المنازل فيها والتي باتت خاوية من سكانها، ولأبحث فيها بين الركام عما يمكن الاستفادة منه أو بيعه، كالحديد، أو الثياب، أو الأثاث الذي يحتاج لبعض الإصلاحات.
لكن للأسف لا يقتصر العمل في هذه المهنة على أرباب الأسر الفقيرة، بل تتضمن هذه الشريحة أطفالاً لم تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة، بسبب غياب المعيل، ما يجبر بعض الأطفال على العمل في جمع هذه المواد من النفايات، لإعالة أسرهم.
(عمر)، وهو طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، صادفته قاسيون وهو يزاول عمله بجمع الورق المقوى والنحاس وعلب المشروبات الغازية ليلاً ليبعها بسعر بالكاد يسد حاجتهم.
وعند سؤال والدته عن سبب سماحها لابنها بالعمل في جمع النفايات قالت: «أنا أم لثلاثة أطفال ولا يوجد لدي معيل بعد وفاة زوجي، حاولت العمل في عدد من المعامل وكان أرباب العمل يوافقون على تشغيلي، ليس لحاجتهم للعمال بل بدوافع دنيئة واستغلال وضعي كأرملة ما دفعني إلى ترك العمل عدة مرات، وذات مرة عاد ابني من الشارع وبيده لعبة صغيرة سألته من أين أتيت بها، فأجابني وجدتها قرب الحاوية النفايات، ومن حينها بدأت أرسل أبني للبحث عن البلاستيك والورق المقوى.
وأنا أبيع ما يجمعه لشخص يتجول بسيارته ويشتري مثل هذه الأشياء، فهذا العمل يحميني من محاولة استغلال بعض ضعاف النفوس من أرباب العمل لوضعي، كما وبعد تعرض المنطقة المجاورة لمنطقتي في القابون للقصف وتدمير معظم المنازل فيها، خرجت بعد أن هدأ الوضع فيها بعض الشيء، مع أبني ولنبحث عن ما يمكن بيعه والاستفادة من ثمنه بين أنقاض المنازل التي سترحل إلى مكبات الأنقاض أو النفايات، فأصحابه لن يستفيدوا منها ولكن من بوضعنا قد يجد فيها ما يمكن إصلاحه وبيعها خصوصاً في المنازل و المحالات التي لم تدمر بشكل كامل.
مجبرون على هذا العمل
خسر عدد كبير من السوريين مصادر رزقهم خلال الأزمة، ما تسبب في تزايد نسبة البطالة إلى ما يفوق(%18) بحسب إحصاءات رسمية، وإلى ما يفوق (%30) حسب إحصاءات غير رسمية، خصوصاً بعد التطورات المسلحة التي طرأت على الأزمة مؤخراً، والتي كانت السبب الرئيسي وراء تزايد نسبة البطالة في سورية، وتزايد هذه الشريحة من الفقراء.
يقول أبو خالد، وهو أحد الأشخاص الذين فقدوا عملهم بعد أن أغلقت المنشأة الصغيرة التي كان يعمل بها بسبب عدم قدرة أصحابها على تحمل نفقات المواد الأولية الضرورية للعمل وعدم قدرة على دفع أجور عمالهم: «فقدت عملي، فبحثت عن عمل ولكن دون جدوى، فمعظم المعامل تقوم بتسريح أعداد كبيرة عمالها، حتى تقلل النفقات تستطيع الاستمرار، بعد أن يئست من إيجاد عمل قررت العمل في جمع ما يمكن تكريره وبيعه من نفايات ومع انتشار الدمار في عدد من المناطق بتنا نسمع عن أشخاص وجدوا قطع ذهب وأشياء يكمن الاستفادة منها وبيعها بين الركام، تركها أصحابها في منازلهم قبل أن يجبروا على ترك منازلهم هرباً من القصف، الذي دمرها كلياً أو جزئياً، فصرت أقصد هذه المناطق المهدمة للبحث بين الركام وجمع ما يمكن الاستفادة منه، إضافة إلى الحديد وملابن الأبواب والنوافذ الألمنيوم المتناثر وبين الركام، بعض البضائع التي لا تزال صالحها والملقاة في الشارع من المحلات التجارية المهدمة بشكل جزئي، علنا نجد ما يعيننا على العيش دون أن نضطر للتسوّل».
أما (أبو أحمد)، وهو من العمال الذين سرحوا من عملهم مع عدد من العمال، بحجة اضطرار المنشأة التي يعمل بها التابعة القطاع الخاص إلى تقليل نفقاتها، كما أنه من أهالي منطقة الخالدية التي تم تهجيرهم منها نتيجة الحلول الأمنية التي تتبعها الدولة، فيقول: «بدأت جمع المواد التي يمكن تكريرها من حاويات ومكبات النفايات، ومن بين أنقاض البيوت المدمرة بعد أن تم تسريحي من العمل، دون أن أحصل على أي تعويض بعد (10) سنوات من العمل في هذه المنشأة، وبعد أن فقدت الأمل في إيجاد أية فرصة عمل أخرى في مدينة دمشق التي لا أعرف أحداً فيها بعد أن أجبرنا على إخلاء منطقتنا، بذلك فقدت عملي ومنزلي في حي الخالدية بحمص وأنا الآن أبحث في بين ركام المنازل المدمرة عن ما يمكن بيعه، كأبواب الحديد، والخشب التي لم تتضرر كثيراً، والألمنيوم، وغيرها من محتويات المنازل التي يمكن إصلاحها، فهذه الأشياء سيتم ترحيلها إلى مكبات الأنقاض، فلم لا نستفيد منها نحن الفقراء في كسب قوت يومنا بدل أن ترمى؟».
هذه الحالات غيضٌ من فيض، فالأزمة التي تعصف بسورية لم تستثن أحداً من أضرارها، بل إنها زادت وبشكل ملحوظ من تدهور الأوضاع الاقتصادية المعيشية للمواطن السوري الذي يعتبر في معظمه من ذوي الدخل المحدود أو ممن هم دون خط الفقر قبل الأزمة ليتحولوا بعد نشوب الأزمة وتحولها إلى أزمة مسلحة، إلى فئة معدومي الدخل، والذين لم يعد أمامهم سوى حاويات النفايات أو المناطق المهدمة لكسب قوت يومهم وسط تناطح أطراف الأزمة الذين على ما يبدو نسوا أن هناك مواطنين يعيشون على هذه الأرض.