ارتفاع أسعار حاد يضرب الأسواق السورية من جديد..  استمرار سياسة تلاعب التجار بالقرار الاقتصادي وتجييره لمصلحتهم
يوسف البني يوسف البني

ارتفاع أسعار حاد يضرب الأسواق السورية من جديد.. استمرار سياسة تلاعب التجار بالقرار الاقتصادي وتجييره لمصلحتهم

بعض صغائر الأمور التي تتحول فيما بعد إلى أزمات وكوارث، تبدأ صغيرة ومهملة، ويتم التعامل معها بعدم الاهتمام، أو بالنظر باستغراب من بعيد، قبل أن تبدأ بالانتشار والتوسع والتجذر، لتقوم سريعاً بتغيير ملامح المجتمع وشكل الحياة ونمط المعيشة، حتى تصبح ثقافة تصبغ المجتمع بلونها وشكلها وصبغتها، فيصعب عندئذ محاربتها واجتثاثها والتخلص منها، ومن تلك الأزمات التي تبدأ على أنها أمر واقع مؤقت تفرضه الظروف المحيطة الآنية، عملية رفع الأسعار التي مارسها التجار في سورية بالتواطؤ مع الحكومات وأصحاب القرار على مدى عقود طويلة، دون أن يتنبه أحد إلى الآلية التي يتبعونها في ذلك، والتي أصبحت عملية روتينية سهلة يمارسونها حتى في وقت الأزمات، لتمر دون أن يستطيع أحد انتقادها أو الاعتراض عليها.

ونتيجة لتخبط الحكومة وتذبذبها وترددها في صياغة الشكل الصحيح والمطلوب للقرار الاقتصادي، تعيش الأسواق المحلية السورية مرحلة صعبة من تداعيات قرار رئاسة مجلس الوزراء بمنع استيراد المواد التي تزيد رسومها الجمركية على %5، ودخلت الأسواق السورية في فورة ارتفاعات جديدة للأسعار، رغم العودة عن قرار منع الاستيراد وتوقيف العمل به وإلغائه، وباتت تداعيات هذا التخبط مصدر قلق وهمٍّ، وشغلاً شاغلاً لجميع أطراف السوق السورية من المستورد إلى التاجر حتى الموزع وبائع المفرَّق، لتصل بالنتيجة إلى من يدفع ثمنها (المواطن المستهلك)، فقد قام التجار برفع أسعار المواد الاستهلاكية، تجاوباً أو ربما اعتراضاً على القرار، الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على المواطن، الذي يشتكي من ارتفاع أسعار المواد أصلاً، بشكل يثقل كاهله ويصعِّب عليه حياته ومعيشته.

حول تداعيات قرار رئاسة مجلس الوزراء بمنع استيراد المواد التي تزيد رسومها الجمركية عن %5، والتعديلات المتكررة التي طرأت عليه، وصولاً إلى إلغائه، وانعكاسات ذلك على السوق الداخلية وأسعار المواد، ومواقف المواطنين من هذه «التمثيلية» التقت «قاسيون» عدداً من المواطنين، وكان لنا هذه اللقاءات:

 رفع الأسعار بحجج مصطنعة

ـ المواطن (حسن ز) قال: «لقد اعتدنا على التأقلم مع الارتفاع المستمر الذي تشهده أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، فمرة يقولون لنا بسبب حظر الصادرات، ومرة يقولون تضاؤل الاحتياطي، ومرة يقولون دعم البضائع ومراقبة الأسعار، أو تزايد الطلب على السلع، والآن يقولون منع الاستيراد وتقديم الحماية المقنعة للصناعة المحلية، هل تذكَّروا الآن، وتحت ضغوط هذه الأزمة، أن هناك صناعة وطنية يجب حمايتها وتطويرها ودعمها؟! إن الغايات التي تدعيها الحكومة لا تبرر وسائلها التي لا تنعكس إلا سلباً على حياة المواطن، وكل ما تقوم به الحكومة هو محاباة للتجار، والسماح لهم بممارسة احتكار السلع وفتح باب التهريب بالاتجاهين، ورفع أسعار المواد التي هي بالأساس غالية وتثقل كاهل المواطن».

ـ المواطن (محمد ع ك) قال: «إن هذه الأزمة التي تعيشها سورية هي من صنع السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للحكومات السابقة، وللأسف فإن الحكومة الحالية تتابع تكريس الأزمات امتداداً للسياسات السابقة، ولا تعمل على حلها، وقد تكون فاقدة للبوصلة التي تؤدي إلى ذلك تماماً، فالسياسات الضريبية الليبرالية عززت تشوهات التوزيع الذي كان فيه ظلم وتشوه بالأساس، وتم الادعاء بأن هناك عملية إصلاحية اقتصادية مؤسسية كان من المأمول أن تجعل عملية إعادة التوزيع من النمو الاقتصادي محابية أو منصفة للفقراء وللفئات الوسطى الدنيا والفقيرة عموماً، من خلال سياسة ضريبية عادلة، وتحويلات في الإنفاق العام الجاري والاستثماري، وتوزيع الأصول لتمكين الفقراء من الوصول إلى الموارد ومواجهة التقلبات التي يكونون عادة ضحايا لها، وقد أُطلِق على هذه العملية التي بقيت حبراً على ورق، والتي كان من المنوي اتِّباعها في سورية، عملية (الإصلاح والتطوير والتحديث)، لكن ما حدث هو أن السياسة الضريبية قد انطلقت من مرجعية ليبرالية مشوهة قامت على خفض الضرائب المباشرة على الأرباح الحقيقية للتجار، ورفعت نسبة الضرائب غير المباشرة والرسوم التي تتحمل عبئها الفئات الواسعة في المجتمع، فانقلب الإصلاح إلى تحريرٍ لكل شيء من رعاية وسيطرة الدولة، مقابل محاباة القطاع الخاص والتجار ضريبياً تحت دعوى التشجيع على الاستثمار، ومن المعلوم أن جميع المكلفين، فيه صغاراً كانوا أم كباراً، معروفٌ أنهم متهربون ضريبياً، والمواطن العادي هو الذي يدفع ثمن كل التحولات، من فرض الضرائب إلى إلغائها، إلى منع الاستيراد، إلى السماح به، فالتجار مثل المنشار يأكلون على الطلعة والنزلة، والمواطن العادي هو الذي يدفع ثمن الاحتكار ورفع الأسعار وفك الحصار، وتضيق عليه سبل الحياة، فيكون حينئذ نزوله إلى الشارع والتظاهر والاحتجاج والمطالبة بالكرامة والديمقراطية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، ليس مبرراً فحسب، بل واجباً مقدساً».

 لعبة احتكار ولكن بقرار

ـ المواطن (إلياس خ) قال: «إنها لعبة تجار واضحة، هم كانوا وراء قرار منع استيراد المواد حتى يتم رفع سعرها في السوق الداخلية، وهذا ما حدث، فقد ارتفعت أسعار بعض المواد، كالزيوت والسمون والمواد الاستهلاكية المستوردة، بنسبة تصل إلى %100، وعند إلغاء القرار عادت وانخفضت بنسبة 20 ــ %30، ولكنها بقيت مرتفعة عن سعرها قبل أسبوعين بنسبة 60 ــ %70، وهذا ليس بجديد علينا، فقد عملت كل الحكومات السابقة على تشجيع الاستثمارات الخاصة وتحرير الأسعار وإطلاق حرية التجارة للمقتدرين والواصلين والمتنفذين والمحسوبين على البعض في السلطة، وعملت على محاباتهم وتدليلهم، وغض النظر على كل ما يفعلونه من سوء في الاقتصاد الوطني، وكانت الزراعة والصناعة الوطنية في آخر اهتمامات المستثمرين، في الوقت الذي لم تضع فيه الحكومات أية خطة أو سياسة لسد هذه الثغرة، بل انسحبت كلياً من أية عملية إصلاح للقطاع العام الصناعي راميةً إياه في مصيدة التآكل والهلاك، على الرغم من أهمية وظيفته الاجتماعية والاقتصادية، وعملت على خلق ازدواجية في الاقتصاد السوري بين سلع منتجة للفقراء وقرارات ضريبية خاصة بهم، وسلع منتجة للأغنياء وقرارات خاصة بهم، وعلى الرغم من كون الصناعة بترابطاتها الخلفية والأمامية هي التي تشكل أساس التغيير الهيكلي الاقتصادي الاجتماعي، وتقود عربة تطور المجتمع وتقدمه، ثم أتت السياسة الحالية للحكومة الأخيرة التي كنا نتمنى أن تكون حكومة إنقاذ وطني تخرج سورية من الأزمة بشكل آمن وتلبي مطالب الجماهير واحتياجاتها المعيشية اليومية، ولكن هذه الحكومة غير قادرة على إخراج سورية من الأزمة بل تزيد من تفاقم التوترات، لأنها على ما يبدو تسير على خطا السياسات السابقة، وتتميز بضيق الأفق وقصر نظرها اقتصادياً، وعدم بناء سياسة تضع في حسبانها تحسين الوضع المعيشي للمواطن».

 ليس بعد الكفر ذنب

ـ المواطن (زياد ق) قال: «ليس بعد الكفر ذنب، فبعد سحب الدعم الأكبر عن المحروقات، وانكشاف الكارثة في تدمير الزراعة والصناعة الوطنية والاقتصاد السوري عموماً، وتشريد البشر وتهجيرهم، اضطرت الحكومة السورية إلى مواجهة هذه التحديات ومواجهتها بعقلية الإطفائي الذي يصل بعد أن يخمد الحريق آكلاً في طريقة كل ما ينبض بالحياة، والسياسات الحالية ليست سوى امتداد لسياسات الحكومات السابقة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من أزمات وطنية واقتصادية واجتماعية، والسياسات الحكومية على مر التاريخ في سورية لم تكن على دراية بتاريخ سورية الاجتماعي الاقتصادي، ولم تضع في بالها كيف عملت الأجيال السابقة على تجاوز الأزمات، ولم يخطر في بالها ولم تضع نصب عينيها كيف يمكن لهذا الجيل الواعي أن يتعامل مع الظروف الجديدة، ولم تفكر في وضع الزراعة والصناعة الوطنية حين فكرت في تحرير الأسعار وإطلاق أيدي التجار ورفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية ولاسيما مادة المازوت، واليوم وتحت ضغط الأزمة تقول منع الاستيراد خطوة جيدة لإحياء الصناعة الوطنية ودعم الاقتصادي السوري ذاتياً، ولكن هذه حجة وحيلة لا تنطلي على المواطن السوري الذي يدرك تماماً السياسات التحريرية المسكونة بهاجس التجارة والخدمات، وسيطر على تفكيرها الحل الليبرالي الجديد المكتبي فقط لعجز الموازنة، والذي بقي أرقاماً وحبراً على ورق، فكانت خططها مالية محاسبية جبائية بحتة، ألحقت الدمار بالزارعة والصناعة تحت حجة ظروف الأزمة المحلية والأزمة العالمية. ولم تنظر سوى شزر إلى الصناعة الوطنية والزراعة، تاركةً إياهما وفق مقولة «جدول الأعمال المعتاد»، ولم تكن على دراية حقيقية بالانعكاس السلبي لهذا الأمر وتأثيره الخطير على حياة المواطن الذي انعكس احتجاجاً وتظاهرات ومطالبات بالتغيير والتحرير والعدالة الاجتماعية».

 منشار طالع نازل

ـ مجموعة من المواطنين أطلقوا بعض التعليقات المتفرقة مثل: «إن التجار حرامية يتلاعبون بالقرار الاقتصادي، والحكومة تسمح لهم أن يفعلوا ما يشاؤون، وتشرع لهم ذلك بقوانين ومراسيم، لا يهمهم إلا مصالحهم الخاصة فقط، أما المواطن العادي والوطن فحدث ولا حرج، لأن كل شيء مباح متاح لهم».

تعليق آخر قال: «أين الحكومة وأين الشرفاء فيها؟ هل صحيح أنه لا يوجد هناك من يحمل هم الوطن والمواطن؟! كل تاجر يرفع الأسعار يجب أن يحاكَم ويحاسَب، فالوطن للجميع وفوق الجميع، على مين عم يضحكوا؟! هم الذين يتحكمون برقابنا ولقمة عيشنا، وهم وراء كل القرارات التي تخدمهم هم فقط، ويحولون كل القرارات لمصلحة احتكارهم وجشعهم وطمعهم، يفتحون أفواههم ويأكلون مثل المنشار في الطلعة والنزلة، عند صدور قرار منع الاستيراد رفعوا أسعار المواد %100 وعند إلغاء القرار ضحكوا علينا وعلى الحكومة ونزلوا الأسعار بنسبة 20 ــ %30، طيب والـ%70 الباقية ما شافتها الحكومة؟! والله هذا الوطن مليء بالنصابين من كل الفرق».

 يقولون ما لا يفعلون

تشهد سورية في هذه الأيام فصولاً جديدة من الأزمة الوطنية العامة التي تعصف بالشارع السوري، وتعاني الأسواق السورية من ارتفاع هائل في أسعار المواد الأساسية الغذائية والملابس، وحتى العقارات، وذلك لأن السياسات التحريرية التسلطية للحكومة الحالية التي كنا نتمنى أن تكون حكومة إنقاذ وطني حقيقية تخلص سورية من الأزمة بشكل آمن، قد حافظت على الإطار والمضمون الكلاسيكي للاقتصاد السوري المحابي للتجار الذي لا يأخذ في حسبانه هموم ومتطلبات الفقراء، وعمقت الفجوات في الدخل رغم أنها في الظاهر كانت تحاول ردم الفجوة بين الدخل والمصروف، ورفعت الأسعار بما يساهم في رفع معدل الفقر والحاجة مرة أخرى، وظلت المناطق المستهدفة بضرورة التنمية تسودها حالات الفقر المادي والبشري، وانتشرت ظاهرة الجياع الجدد، وهم الذين يملكون المال ولكن أسعار المواد الغذائية أصبحت تفوق طاقتهم، وهذا ما سيفاقم الأزمة ويزيد حدوث الاضطرابات الاجتماعية إذا لم يتم احتواء أسعار الغذاء على المستوى المحلي، وإن تزايد انعدام الأمن الغذائي سيؤدي إلى نزاعات جديدة بين مالك الثروة ومحتاجها...