الرسوم القضائية المرتفعة.. والفساد القضائي
جاءت الزيادات الكبيرة في نفقات التقاضي لتفتح باباً للنقاش حول جدوى هذه الخطوات ومدى سلامتها وعدالتها ودستوريتها، وغني عن البيان أن هذا الارتفاع الكبير في رسوم التقاضي يحد من قدرة الفقراء على اللجوء إلى القضاء وهو حق دستوري لهم، إذ قد تصل نفقات الدعوى الواحدة مهما كانت بسيطة، ودون حساب أتعاب المحاماة إلى ما يزيد عن راتب بدء التعيين لموظف الفئة الأولى، وإذا كان النقاش حول مدى عدالة الخطوة ودستوريتها نقاشاً هاماً لابد منه لمقاربة المسألة، فإن العودة إلى أسبابها، ومن ثم رصد نتائجها البعيدة، أمر لا يقل أهمية.
يمكن القول إن الهدف الأساسي من إحداث الصندوق المشترك لقضاة العدل ومجلس الدولة ومحامي الدولة يهدف في الأساس إلى زيادة دخول القضاة بشكل يتناسب إلى حد ما مع المسؤولية التي يحملونها، وذلك بهدف تأمين مستوى لائق من الحياة للقضاة بما يكفل كرامتهم ويجنبهم الانزلاق في الفساد الذي ينال من هيبة القضاء ويشل قدرته على التطبيق السليم للقوانين وإحقاق العدالة.
إذاً ترجع المشكلة في أصلها إلى الفساد، والفساد من الظواهر المستشرية في أجهزة الدولة السورية بما فيها القضاء، ولا شك أن الخطوة الأولى لمكافحته هي تحسين رواتب الموظفين بشكل عام ومنهم القضاة. ويبدأ الحل النظري لهذه المشكلة في تحويل فاقد الفساد نفسه لدعم رواتب الموظفين، إلا أن هذا التحويل يتطلب محاصرة الفاسدين الكبار، وهو الأمر الذي لابد أن يضطلع به القضاء بوصفه السلطة المخولة بمحاسبة من يخرق القانون. وهكذا نبدو وكأننا في حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها، لأن قيام القضاء بهذه المهمة يتطلب أن يكون نزيهاً مستقلاً بعيداً عن الفساد، وهذا يتطلب كما قلنا رفع دخول القضاة، وهنا كانت الفكرة الجهنمية في رفع دخول القضاة من جيوب المواطنين أنفسهم، وذلك من خلال رسوم قضائية فاقت كل تصور، فهل أدى ذلك إلى وضع القضاء على السكة الصحيحة؟
واقع الحال أن رفع دخول القضاة من جيوب المواطنين كما قلنا لم يؤد إلى النتائج المرجوة، فما زال الفساد وسوء الإدارة والتعقيد السمة الأساسية للعمل في السلك لقضائي، وما زلنا نسمع بين الفينة والأخرى عن إحالة عدد من القضاة إلى القضاء لمحاسبتهم، أو عن كف أيدي عدد من القضاة بسبب الفساد، وهكذا فإن لنا أن نسأل، ترى لماذا لم تؤت هذه الخطوة ثمارها؟
نقول أولاً إنه رغم الارتفاع النسبي في دخول القضاة، فلا زالت هذه الدخول لا تتناسب مع حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، كما أنها لا تتناسب مع متطلبات الحياة التي تزداد كلفتها ارتفاعاً يوماً بعد يوم، والحقيقة إنه إذا كانت رسوم التقاضي مرتفعةً جداً، فإنها مرتفعة فقط بالنسبة إلى دخول المواطنين، أما بالقياس إلى الأسعار وكلفة متطلبات الحياة الفعلية فإنها ليست مرتفعة جداً، ولو كانت دخول المواطنين عادلة ومتناسبة مع الأسعار لما كان لارتفاع نفقات التقاضي هذا الأثر الكبير على حق المواطنين في اللجوء إلى القضاء.
ومن ناحية أخرى فإن الفساد في الجسم القضائي ليس مرتبطاً بالدخول فقط، ولكنه مرتبط بجدية المحاسبة والجهات القائمة عليها، كما أنه لا يرتبط بالقضاة فقط، وإنما بجميع الموظفين العدليين الذين لا تزال رواتبهم منخفضة جداً كغيرهم من الموظفين الحكوميين، وأخيراً فإن الفساد مرتبط عضوياً بتعقيد القوانين والإجراءات، والبيروقراطية الشديدة التي تجتاح السلك القضائي وغيره.
وأخيراً فإن هذه الخطوة التي تهدف في الأصل إلى صيانة هيبة القضاء، ألحقت الضرر بهذه الهيبة من ناحية أخرى، لأن القضاء المستقل يجب أن يمول من خزينة الدولة بشكل مباشر، ويجب أن يكون التقاضي أمامه مجانياً أو شبه مجاني ليشعر المواطنون بهيبته من جهة، وليتمكنوا من ممارسة حقهم الدستوري من جهة أخرى.
إذا كان صحيحاً أن هذا الارتفاع في نفقات التقاضي غير دستوري وينال من الحق المقدس للمواطنين في التقاضي من جهة، فإنه خطوة غير مفيدة على صعيد تحصين القضاء وصيانة هيبته من جهة أخرى، لأن المشكلة في مكان آخر، إنها هناك عند كبار الفاسدين الذين تتطلب محاصرتهم جهداً سياسياً اجتماعياً منظماً على صعيد الهرم السوري من رأسه إلى قاعدته.