من الذاكرة: دق النفير
للأماكن ومنها البيوت منزلة هامة في سجل تأريخ الأحداث وبخاصة تلك التي احتضنت نشاطات واجتماعات ومؤتمرات في العهد السري، وفي تاريخ حزبنا الشيوعي السوري تبرز أسماء كثير من هذه البيوت في المدن والأرياف، في طول البلاد وعرضها.
ولا ريب أن الرفاق القدامى يذكرون تلك البيوت في مناطقهم، وأنا كواحد من هؤلاء الشيوعيين بدمشق أعرف غالبية هذه البيوت فيها، ومنها بيوت كل من الرفاق مراد القوتلي وبطرس أبو شعر ويوسف نمر وجورج عويشق وجبران حلال وأبو معروف راتب بلال، وفي حينا بركن الدين بيوت الرفاق خالد بكداش وإبراهيم بكري ورشاد عيسى وعبد الجليل وعبد الوهاب رشواني، ودكان أبو راشد قره قيجي، وبيت رمضان وصلاح ملاطيه لي والدكتور نبيه رشيدات وسعيد ميرخان وأبو كمال وأبو جوان ظاظا وأبو بلال آله رشي وأبو راشد ميقري وأبو فهد طه وأبو عدنان مللي (بيت إعداد المتطوعين من الرفاق في العمل الفدائي) وبيت الرفيق سعيد الكردي أبو إبراهيم الذي سأتحدث قليلاً عنه، فهو المكان الذي جرى فيه عقد أكثر من مؤتمر عام للحزب، واجتماعات الكادر الحزبي والنقابي، ونشاطات جماهيرية واحتفالات بالمناسبات الوطنية والأممية، وفي غرفه وساحته جرت التدربيات الفنية لفرق اتحاد الشباب الديمقراطي «غناء، دبكة، تمثيل»، والمسابقات الثقافية وقد وثق الكثير منها بالصوت والصورة. وفيه وقفت أمام «الجمهور» لأول مرة لألقي قصيدة بمناسبة عيد الجلاء عام 1956، وأذكر اليوم كيف عانيت قلق رهبة مواجهة الجمهور وجهاً لوجه.. وأذكر كيف شجعني الرفيق عبد الوهاب رشواني بقوله: الأمر عادي.. فأكثر الحاضرين تعرفهم ويعرفونك، وطالما تحدثت بينهم ومعهم. وعندما أعلن عريف الاحتفال الرفيق خالد الكردي «الزعيم» عن دوري في الإلقاء تقدمت إلى المنصة وأنا أسمع تصفيقاً، وما إن بدأت الإلقاء أخذ منظر الناس يغيم أمام ناظري، وأحسست أني أهوي في فراغ، فلم أعد أسمع حتى صوتي، ولم أصح من ذلك إلا وأنا أردد البيت الثالث أو الرابع، واستعدت حضوري واستقام أدائي.. وكانت تلك التجربة أرضية أصبحت أستند إليها فيما بعد وأنا ألقي القصائد في أغلب المناسبات الحزبية والوطنية والأممية ومنها ما كان في معسكرات «مخيمات» اتحاد الشباب الديمقراطي وفي المراكز الثقافية، ومازال في البال العديد من الأمسيات التي أحييتاها منفرداً أو مع غيري من الشعراء وأذكر منهم عبد الكريم عبد الرحيم ورياض أبو جمرة وعبد الغني العظمة وأيمن أبو شعر وسليمان السلمان. وربَّ سائلٍ يسأل: ماالذي دفعك إلى ساحة الشعر، والجواب باختصار، إنه أحد المعلمين في المرحلة الابتدائية وكان معلمنا في الصف الرابع بمدرسة الصاحبة ــ وهو وقتها طالب في كلية الآداب، ففي دروس الخط والإملاء والنحو، يكتب على السبورة أبياتاً من معلقات الشعراء الفحول، ثم يقرؤها.. بل يلقيها أكثر من مرة وكأنه في أمسية شعرية، فيثير اهتمامنا ثم أعجابنا بالشعر والشعراء، ومن تلك الأبيات أذكر قول زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
وقول عنترة:
هلا سألت الخيل يا بنة مالك
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
وحين دخلت مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي، ظهرت بوادرة رغبتي الجارفة في قول الشعر. وكانت أولى تلك المحاولات ما كتبته عام 1953 بعد مشاهدتي «عملية» هدم منزل طيني في منطقة الديوانية بدمشق، بأمر من أمانة العاصمة، فزاعني المنظر المخيف، كيف تطرد امرأة مسنة مع أطفال صغار خارج بيتها، لتنقض معاول الهدم على سقف البيت وجدرانه وبحراسة من عناصر الشرطة... وكانت الأبيات التالية:
دق النفير... يا رجال الشرطة إلى المسير
أمر بزحف قد أتى... في الديوانية ينتصب الردى
دونكم حصن حصين... بيت من اللبن والطين
ومن الرجولة فتزودا... وعلى خوض المعامع فتعودوا
واحملوا ما تيسر من المسدسات و«الكريكات»
لهدم بيت فيه عجوز وثلاث بنات!!