الأخطار البيئية في سورية.. وإجراءات «رفع العتب» الحكومية
تتعدد المشكلات البيئية في سورية بقدر تعدد نظيراتها في المجتمع والاقتصاد والخدمات، وترتبط معها ارتباطاً عضوياً كون الظروف المؤدية إليها جميعاً واحدة، وتتعلق أساساً بغياب التخطيط الدقيق والمستدام، وغلبة الفساد والنهب، وغياب الرقابة بأشكالها المتعددة، وأخيراً وليس آخراً هيمنة قوى السوق المحلية والوافدة ومن يرعاهما على حيّز واسع من مقدرات وثروات البلاد، بكل ما يعني ذلك من سعي نحو الربح الأعلى على حساب الطبيعة والبشر..
سنتوقف في هذا العدد عند بعض هذه المشكلات الخطيرة، على أن نتابع فتح وتقليب هذا الملف بشكل مستمر بالتعاون مع الاختصاصيين وأصحاب العلاقة الذين زودونا مشكورين بالمعلومات المعروضة في هذه المادة..
أولاً: صناعة النفط والفوسفات والخطر الإشعاعي..
أ: صناعة النفط
يتم استخراج النفط في سورية وفقاً للتقنية الشائعة عالمياً، والتي تعتمد على حقن الماء عبر مسارب تصل إلى أسفل البئر النفطي، ما يجعل النفط يتدفق إلى الأعلى (حسب دافعة أرخميدس)، وذلك نتيجة لانخفاض الوزن النوعي للماء أمام الوزن النوعي للنفط. وعلى سطح البئر، يتم فصل الماء عن النفط بعملية تسمى الإبانة، ويعاد حقن هذه المياه مرة أخرى، وتتكرر هذه العملية عشرات ومئات المرات.
مع كل عملية حقن جديدة، تزداد ملوحة المياه المحقونة، حتى أن ملوحتها تصل إلى ثلاثين ضعفاً من ملوحة مياه البحار، وتقاس الملوحة بتركيز الكالسيوم Ca، والمغنزيوم Mg، في المياه. إن ازدياد ملوحة المياه يزيد من وزنها النوعي، ويضعف تأثيرها في رفع النفط إلى أعلى، والأهم «بالنسبة لشركات النفط»، هو ازدياد ترسبات كربونات الكالسيوم CaCO3 على جدران البئر النفطي ما يسبب "خسائر اقتصادية"(لأن ازالة هذه الترسبات يتم باستخدام فرشاة معدنية ضخمة وباستخدام تقنيات مكلفة اضافة إلى كون هذه الرواسب محسوبةً كنفاية خطرة تضطر الشركات بعد استخراجها إلى خزنها خزناً مأموناً يكلف كثيراً هو الآخر )، بمعنى آخر يقلل الأرباح، عدا عن ضياعات المياه التي لا مفر منها، لذا يتم تجديد هذه المياه دورياً، وعليه فإن كلفة استخراج النفط تتضمن مكوناً أساسياً هو كمية الماء اللازمة لاستخراج برميل واحد من النفط. عالمياً، هذه الكمية هي بحدود ثمانية براميل ماء وسطياً لكل برميل نفط، في حين تتراوح في سورية بين 22 إلى 25 برميل ماء للبرميل الواحد من النفط على اعتبار أن النفط السوري هو نفط ثقيل وعميق ولذا يحتاج إلى كميات أكبر من المياه لرفعه، بحساب بسيط ينطلق من كون إنتاج النفط في سورية لعام 2010 كان بمعدل 386 ألف برميل يومياً، وسندخل في الحساب الحد الأدنى أي 22 برميل ماء لكل برميل نفط نجد أن استهلاك المياه لاستخراج النفط سنوياً في سورية يبلغ نحو 500 مليون متر مكعب، ولفهم ضخامة هذا الرقم نذكر أن مخزون سد بحيرة قطينة على نهر العاصي المسؤول عن ري سهول حمص وحماة يبلغ 250 مليون متر مكعب وأن مخزون سد الرستن المسؤول عن ري سهل الغاب هو أيضاً 250 مليون متر مكعب، أي أن كميات المياه المهدورة في إنتاج النفط تعادل مجموع المياه المخصصة للري في كل من سهول حمص وحماة وسهل الغاب، أي أنها نهر حقيقي مهدور في منطقة هي أحوج ما تكون لكل قطرة ماء. يمكن تقليل هذا الهدر إلى حدوده الدنيا عبر إجبار الشركات النفطية على تنقية المياه من الكالسيوم والمغنزيوم وتخليصها من ملوحتها، ومن ثم إعادة استخدامها لاستخراج النفط أو استخدامها لأغراض الري بعد تخليصها من حمولتها الثقيلة، وذلك عبر إرغام هذه الشركات على تحسين تقنياتها والتقليل من أرباحها ولا مبالاتها.. وإذا وضعنا جانباً القدر الهائل من الهدر والذي يشكل بحد ذاته مشكلة بيئية وثيقة الصلة بالتصحر الذي يهاجم البادية السورية ومنطقة الجزيرة التي كانت يوماً ما كلها خضراء، فإن السؤال الأخطر هو أين ترمي الشركات الأجنبية المياه بعد استخدامها؟ وما هي خصائص هذه المياه؟..
المياه المالحة أو produced water:
ذكرنا سابقاً أن المياه الخارجة من صناعة النفط تتصف بملوحة عالية جداً، الأمر الذي يجعل من إلقائها في الأراضي، حكماً بالإعدام على إمكانية استغلالها زراعياً، وتكرار هذه العملية يحكم على الأراضي بالتصحر. بالرغم من ذلك، فإن التخوف من خطر التصحر الذي تسببه المياه المالحة، سيغدو ترفاً أرستقراطياً، حين نعاين الخطر الإشعاعي لهذه المياه!!
المياه المحقونة في الآبار النفطية، تتعرض لتراكيز عالية من العناصر المشعة، لأن تراكيز هذه العناصر تزداد مع العمق، حيث يصل عمق بعض آبار النفط في سورية إلى ستة كيلومترات، ومن بين عناصر سلاسل النشاط الإشعاعي لليورانيوم والثوريوم، يوجد عنصر وحيد قابل للإنحلال بالماء، وهو الراديومRa . عند انحلال الراديوم بالماء وخروجه معه إلى حيث يرمى، تحدث ظاهرة التصدع الإشعاعي، حيث يكمل الراديوم حياته الإشعاعية ولكن هذه المرة بدور الأب، أو رأس السلسلة. ومما يزيد من خطورة التصدع الإشعاعي، حقيقة أن ارتفاع ملوحة المياه، يرفع معامل انتقال الراديوم Ra من الطور الصلب إلى الطور الغازي، أي إلى الرادون Rn، والذي إن حدث ودخل عبر التنفس فإنه سيكمل نشاطه الإشعاعي في الجسد حاكماً عليه بالسرطان. فأين تلقي الشركات الأجنبية هذه المياه الخطرة؟ تلقيها في ملايين الهكتارات القريبة من حقول النفط، مضيفةً إلى سجل خسائرنا خسارات جديدة وخطيرة، وعندها لا يعود مستغرباً أن تكون أكبر نسبة سرطانات تصيب الأطفال في العالم هي في دير الزور حسب منظمة الصحة العالمية.
ب: صناعة الفوسفات
يوجد في سورية منجمان أساسيان للفوسفات، هما خنيفيس والشرقية في منطقة تدمر، حيث يتم استخراج الصخور وطحنها، ثم تنقل بسكك الحديد إلى حمص، حيث يتم تصنيعها. تعالج الصخور المطحونة بحمض الكبريت وفقاً للتفاعل:
لاحظ الشكل رقم (1)
الصخور القادمة من مناجم الفوسفات، تحمل عناصر مشعة معزولة عن سلاسلها، ووفقاً لتناسب المقادير في التفاعل، فإن الصخور إن حوت مثلاً على 100 p.p.m من اليورانيوم، أي 100 جزيئة في كل مليون جزيء من الصخور المطحونة، فإن 98 p.p.m ستنتقل إلى حمض الفوسفور. وأين يذهب حمض الفوسفور؟.. ليس بعيداً.. يذهب إلى تصنيع الأسمدة!. أي أن اليورانيوم المشع سينتشر ليصل إلى كل حقول بلدنا، ثم إلى كل بيوتنا مهدداً حياة شعب كامل بات يحفه الخطر..
وإن حوت الصخور المطحونة على 100 p.p.m من الراديوم، فإن 99 منها ستذهب إلى الفوسفوجبسوم (كبريتات الكالسيوم المائية)، والتي تعتبر نفاية خطرة تحوي تراكيز عالية من الراديوم .Ra226فأين تدفن نفاياتنا الخطرة؟ أين يدفن الفوسفوجبسوم؟؟ هو الآخر لا يذهب بعيداً.. يدفن في جنوب غرب مدينة حمص، في المكان ذاته الذي قرر المحافظ أنه المناسب لبناء المساكن العمالية!!
ثانياً: صناعة المنظفات وظاهرة الإثراء الغذائي..
منذ زمنٍ ليس بالبعيد، كان محظوظاً من يحصل على علبة منظفات في سورية، أما الآن والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فقد أصبحت المنظفات هي البضاعة الأكثر رواجاً والأكثر ربحية بين شقيقاتها من البضائع، ويمكن لمن يشكك بذلك أن يسأل السمان في حارته عن أرباح المنظفات.. لكن ما هو السر في هذه الفورة أو الفقاعة، بل فقاعات، الصابون؟!
منذ مطلع الألفية منع الاتحاد الأوروبي استخدام الجذور الفوسفاتية في تصنيع المنظفات، وذلك انطلاقاً من أن استخدام هذه الجذور يؤدي إلى حدوث ظاهرة الإثراء الغذائي، والتي من الممكن اختصارها على النحو التالي: تذهب المنظفات بعد استخدامها إلى الصرف الصحي، والصرف الصحي في سورية يذهب إلى المسطحات المائية أو إلى الأنهار، وبما أن البّناء الأساسي في صناعة المنظفات هو الجذور الفوسفاتية PO4-3، وهي مخصبات طبيعية فإن الحياة الخضراء ستغزو المسطحات التي يرمى فيها الصرف الصحي ناشرة فيها الأشنيات والطحالب، التي تأخذ غاز ثاني أوكسيد الكربون CO2 وتطرح الأوكسجين O2 في عملية التركيب الضوئي، وهذا الأمر جميل وصحي، ولكن الكارثة تتعلق بدورة حياة اليخضور التي تمتد من ثلاثة أشهر إلى سنة كحد أقصى، وعندما تبدأ بالتموت تنتج بكتريا تقوم بتحليلها وتفكيكها، ولتعمل هذه البكتريا فإنها تقوم بعملية معاكسة تأخذ خلالها الأوكسجين وتطرح ثاني أوكسيد الكربون، وتستمر هذه العملية محولة المسطح المائي إلى مستنقع بسبب نقص الأكسجة الناتج عن النشاط الهائل للبكتيريا، وهذا ما نراه عياناً في حال المسطحات المائية في سورية، وخاصة في الساحل السوري والتي تحولت كلها تقريباً إلى مستنقعات، وبفعل نقص الأكسجة فإن الثروة السمكية في تلك المسطحات أخذت بالتلاشي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن سمك الكارب الذي كان يصل وزن الواحد منه إلى ثمانية كيلو غرامات أصبح في أحسن أحواله لا يتجاوز المئة غرام!
فإذا كانت هذه هي ظاهرة الإثراء الغذائي الناتجة عن استخدام الجذور الفوسفاتية في صناعة المنظفات، فلماذا نستخدم هذه الجذور؟ ولماذا ازدهرت صناعة المنظفات «الفوسفاتية» في بلدنا؟ الجواب بسيط، وهو أنه حين منع الاتحاد الأوروبي استخدام الجذور الفوسفاتية ضمن أراضيه، قام بتصدير مخزونه منها بأسعار زهيدة إلى دول من العالم الثالث..
ترى هل صحة مواطني البلدان المنهوبة ومنها سورية أقوى من التأثر بمثل هذه الملوثات؟.. السؤال برسم من يسمح باستيراد هذه المواد (عالعمياني)؟
من جهة أخرى، يعزز مشكلة الإثراء الغذائي في سورية أن الصرف الزراعي هو الآخر يحوي على الجذور الفوسفاتية الفائضة من الأسمدة ويذهب إلى المسطحات المائية والأنهار، ويجعل أثر الإثراء الغذائي مضاعفاً.
رفع عتب حكومي
أمام واقع بهذه المرارة، يصبح النظر إلى قضية البيئة من وجهة نظر المنديل الورقي لوزارة الدولة لشؤون البيئة، وكذلك الأغاني الجميلة التي تدعو لإضاءة شمعة للمستقبل.. مجرد مزاودة على المواطن السوري الذي يتمتع بقدر كبير من نظافة الجيب وتلوث البيئة..
فوسفوجبسوم
+
حمض الفوسفور
حمض الكبريت
+
CaSO4nH2O
H3PO4
H2SO4
صخور مطحونة
■■
التوازن الإشعاعي والتصدع الإشعاعي
العناصر ذات النوى الثقيلة، هي عناصر غير مستقرة. ويرجع عدم استقرارها إلى اختلال التناسب بين عدد البروتونات وعدد النيترونات في أنويتها. في سعيها الطبيعي نحو الاستقرار، تقوم نوى العناصر المشعة بإطلاق جسيمات ألفا أو بيتا مترافقةً مع أشعة غاما، وذلك للوصول إلى تناسب أكثر استقراراً بين النيترونات والبروتونات. مع كل إصدار إشعاعي (α+γ أو β+ γ)، يتحول العنصر المشع إلى عنصر مشع آخر، يصدر بدوره (α+γ أو β+ γ) متحولاً إلى عنصر جديد، وهكذا.. حتى الوصول إلى عنصر مستقر، غالباً هو أحد نظائر الرصاص أو البيزموت.
مجموعة العناصر المشعة التي يتحول أحدها إلى الآخر وصولاًُ إلى العنصر المستقر، تسمى سلسلة النشاط الإشعاعي الطبيعي، ويصطلح تسمية كل منها نسبة إلى العنصر الأب الذي تبدأ به السلسلة، وأهم السلاسل وأكثرها تركيزاً في الطبيعة؟ هي سلاسل اليورانيوم المشع الثلاث (U234،U235، U238)، وسلسلة الثوريوم المشع (Th232).
مفهوم التوازن الإشعاعي، ينطلق من أن وجود عناصر السلسلة الإشعاعية كاملةً، مع بعضها البعض، يحكم الإصدارات الإشعاعية بعمر النصف الأطول في السلسلة، وهو من رتبة مليون سنة في معظم السلاسل، و4.5 مليار سنة بالنسبة لسلسلة U238. وعليه فإن الخطر الإشعاعي على الإنسان يكاد يكون معدوماً في حالة التوازن الإشعاعي، يعزز هذا الأمر ضعف تراكيز العناصر المشعة في القشرة السطحية للأرض، في حين تزداد تراكيزها بشكل هائل مع العمق، ما يفسر انصهار لب الكرة الأرضية الغني بالنشاط الإشعاعي. الخطر الحقيقي يظهر عند إخراج عنصر مشع من سلسلته، سواء نتيجة النشاط البشري أو نتيجة لظرف طبيعي. عندها تحدث ظاهرة التصدع الإشعاعي، حيث يتحول العنصر المعزول إلى أب لسلسلة إشعاعية تمارس نشاطها المحموم محكومة لعمر نصف أصغر بكثير من عمر النصف الأصلي.
عزل الراديوم Ra :
تشترك سلاسل اليورانيوم الثلاث، وسلسلة الثوريوم، بمرور كل منها بعنصر الراديوم ثم الرادون Rn. الأول منحل بالماء وهنا تكمن خطورته، حيث تكسبه قابلية الانحلال إمكانية التغلغل في كل تفصيل من تفاصيل محيطنا الحيوي، من المياه إلى التربة إلى الغذاء... ومن ثم فإن الرادون، العنصر التالي، غاز خامل، يمكن أن يدخل أجسادنا خلال التنفس ليكمل السلسلة داخلها. إذا انتبهنا إلى الشكل المرافق، سنجد أن سلسلة الرادون ستطلق كل أربعة أيام تقريباً، وخلال أقل من دقيقة، جسيمي ألفا وجسيمي بيتا وأربع مرات ستطلق أشعة غاما، وبالمجموع فهي طاقة هائلة تزيد عن أربعة ملايين إلكترون-فولط، الأمر الكفيل بتحقيق إصابة أكيدة بسرطان الرئة، خصوصاً أن هذه العملية ستتكرر لمدة تزيد عن 154 سنة، ريثما تتوازن السلسلة.