عشوائيات التطوير العقاري
منذ أيام قليلة عادت ورشات الهدم إلى عملها لإزالة المخالفات الواقعة على أملاك الدولة، أو تلك التي اعتدت على أملاك خاصة، أو تم تشييدها من أجل الاستثمار في أموال السوريين، واستغلال حاجة الكثيرين في بيت دون دفتر شروط.
ورشات الهدم في محافظة دمشق سوت بالأرض وفق تصريحات بعض مسؤوليها أبنية لمتنفذين كبار، ووصل عدد المخالفات المهدومة إلى أكثر من 100 مخالفة، وهذا الرقم يبدو ضئيلاً قياساً بحجم البناء الذي تعالى في الأشهر القليلة المنصرمة، وبقيت على حالها محال تجارية تم تأجيرها بمئات الألوف على الطرق الرئيسة في مداخل المدينة دون أن يمسها أحد.
ليس بعيداً عن العاصمة، وفي ضواحيها القريبة، عمل المتعهدون على عدم إضاعة الوقت بما يجري في ساحة الوطن، ولم يتركوا ساعة عمل تمر دون بناء ما يمكن أن يصير استثماراً عقارياً، حتى في الأماكن التي لا يسمح فيها القانون إشادة طوابق جديدة، وفتحت محالاً تجارية في مناطق السكن الأول، والذين لم يمنحهم القانون تراخيص بناء منحوا أنفسهم تلك الرخص، وتجاوزوا عليها، وقام البعض بتسوير أملاك ليست لهم، واعتدى البعض على حرمة الجوار وتمادى في البناء فوقه وتحته وعلى يمينه ويساره دون أي رادع أخلاقي.
وفي هذه الفوضى العشوائية اتسعت العشوائيات التي كانت هدفاً لخطط حكومية سابقة تسعى إلى تقليصها وتخديمها، والعشوائيات التي كان من الممكن السيطرة على توسعها صارت مدناً صغيرة.. حَوَارٍ نشأت ونبتت، وكتل إسمنتية امتدت على مساحات لا يمكن أن تصلها الحافلات ولا الخدمات الأساسية بانتظار أن يتم ضمها إلى المخططات التنظيمية كالعادة بفعل الأمر الواقع.
أما الفقراء فلهم حصتهم من التمادي على القانون أيضاً، ولكنه تمادي الضعيف الخائف.. سرق الفقراء الوقت واستدانوا ليبنوا غرفة جديدة، ومطبخاً مستقلاً، وحماماً ككل البشر، وسارعوا إلى الاقتراض، وتكوين جمعيات البسطاء المالية ليتمكنوا من مخالفة قانون كانوا هم من يدفعون ثمن تطبيقه. .فالمتعهدون وأصحاب الاستثمارات يمكن أن يحتموا بالرشوة والفساد الذي يعشش في مكاتب البلديات والوحدات الإدارية.
في الوقت نفسه، أغلقت الشركات العقارية أبوابها على ديون للمكتتبين، وعلى استحقاقات والتزامات لم تستطع أن تفي بها، وظهرت هذه الشركات - التي أخذت شرعيتها من قانون التطوير العقاري – كمؤسسات صغيرة لجامعي الأموال، وأشكال مبتكرة للاحتيال، وشركات أُعلن عنها كمنقذ ومخلص أفلست وأغلقت مكاتبها، وتقف اليوم بين هاربة أو أمام أبواب القضاء، وأما من تيسر له الهروب فينتظر المكتتبون على وهم شققه الفاخرة عودته مخفوراً.
الشركات العقارية رسمت أحلاماً للمواطنين في أرياف وهمية، وخدمات خمس نجوم في أماكن لا تتوفر فيها المياه، ولا خدمات من الدرجة العاشرة.. مسابح وفلل وشقق على هيئة أبنية اسطنبول في المسلسلات التركية، وفيما على الأرض التي اشترتها تلك الشركات تنتشر الشوكيات، وتجاورها مكبات الزبالة، ولم تصلح ذات يوم لامتداد السكن العشوائي، أو لخيم النازحين من جفاف المنطقة الشرقية.
كل ما تقدم يفتح الباب على تساؤلات مشروعة عن خطط الحكومة الجديدة لإيقاف هذا التوسع الأفقي الذي لا يسمح بتخديم أفضل، وبتنظيم حضاري لهذا الركام الإسمنتي، ولهذه البشاعة والقبح.
هل استطاع قانون التطوير العقاري أن يبني شركة واحدة لا تدور حولها الشائعات، ولا يوضع على سلوكها المالي (عدا عن التهرب الضريبي) إشارات استفهام كثيرة؟
أليس ممكناً أن تتدخل الدولة بمؤسساتها الكبيرة والمتعددة لتقوم بهذا الدور الذي أوكلته إلى القطاع الخاص ليبيع الأوهام للناس، وفي أحسن الأحوال يبيعهم مواصفات وهمية.
هل تجد الحكومة بخبرائها وفريقها الذي يجلدنا بإنجازات على الورق قانوناً عصرياً يساهم في تحويل هذه الامتدادات العشوائية إلى أماكن صالحة للحياة والتنظيم؟
تبدو القصة في بلادنا كمن يعيد ترتيب أسماله البالية لتكون صالحة للعيد..