المسنون في سورية.. البرنامج الوطني للرعاية.. سقوط بطاقة الركوب المخفضة!

المسنون في سورية.. البرنامج الوطني للرعاية.. سقوط بطاقة الركوب المخفضة!

يمضي أبو مرعي نصف نهاره في الوصول إلى السوق حيث يمد يده للمارين منذ أكثر من عشر سنوات، فالرجل الذي تجاوز القرن من العمر لا يجد من يعيله سوى الجيران وبعض الجمعيات الخيرية الأهلية التي لا تقدم إلا القليل من المال والطعام في المناسبات الدينية والأعياد.

أما في كفرسوسة (اللوان)، فتمضي سيدة عجوز وقتها في البحث في الحاويات عما يمكن أن يصير مالاً أو طعاماً، وجارها صاحب المطعم يقول إن اليوم الذي لا تمر من أمام محله سيكون يوم وفاتها، والسبب هو أن بيتها عبارة عن غرفة واحدة مستأجرة منذ عقود ليس سوى مستودع لما تجمعه، وأما من هي هذه السيدة فيقول الجار: هي أرملة منذ سنوات طويلة، ولم تنجب، وتعيش وحيدة ولا تختلط بأحد. 

أبو مرعي والسيدة الوحيدة نموذجان لعجائز تتشابه قصصهم في حياتنا ومجتمعنا، وأما في طرف المعادلة المسؤول فثمة وزارات (الصحة – العمل)، وجمعيات أهلية وحكومية لا تفعل ما يناط بها، وتمارس دوراً نظرياً في أبعد ما يقدم برامج تتحدث عنهم، وندوات تعقد ومؤتمرات يدفع عليها الملايين كان من الممكن أن يجعلهم أوفر حظاً في أرذل العمر.

 صندوق الرفاه الاجتماعي

تم في دمشق في عام 2007 إطلاق مشروع تأسيس صندوق الرفاه الاجتماعي بالتعاون بين وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وهيئة تخطيط الدولة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وصندوق الأمم المتحدة للسكان في سورية، وكان من الأهداف المعلنة والمبررة لإنشائه، وضع الآلية المناسبة بقصد الوصول إلى السكان الأكثر فقراً ابتداء من الفئات الضعيفة معوقين مسنين .. أيتام .. أرامل.. مطلقات.. خصوصاً غير القادرين على العمل، وذلك عن طريق تقديم المساعدات النقدية المباشرة.‏

كما وتضمن المشروع ثلاث مراحل تتمثل المرحلة الأولى بإتمام سياسات تستهدف السكان الأكثر فقراً، والثانية إنشاء صندوق الرفاه الاجتماعي، والمرحلة الثالثة تعزيز قدرات جميع الجهات الفاعلة في استهداف السكان الأكثر فقرا وموظفي صندوق الرفاه الاجتماعي .‏

وبعد نحو خمس سنوات من عمر هذا الصندوق من حقنا أن نسأل: أين وصلت الأهداف المعلنة؟ وماذا تحقق من نتائج على صعيد خدمة الفئات الضعيفة؟ ولماذا يترك عجائز الوطن ليصيروا متسولين في أحسن أحوالهم؟.

وقد شهدت السنوات الأخيرة، وكنتيجة للسياسة الاقتصادية الحكومية التي انتهجت خيار السوق المفتوحة، استفحال المظاهر الاجتماعية البائسة، فازدادت حالات التسول، وخصوصاً بين المسنين من نساء ورجال، وغابت بنسبة كبيرة الأدوار الفاعلة لجمعيات المجتمع الأهلي نتيجة ضعفها مادياً، وتقلص دورها على صعيد الوصول إلى هذه الحالات.

 على طرفي نقيض

في الوقت الذي يزداد فيه عدد المسنين في سورية يجب أن يقابله توسع في الدور الرعائي للدولة لهذه الشريحة، وتتحدث الدراسات عن بلوغ متوسط الأعمار في سورية في عام 2003،  75.1 للإناث، و 71.6 بالنسبة للذكور، وهذا ساعد في تطور وتحسن مستوى الحياة لبعض الشرائح الاجتماعية، وازدياد الوعي الصحي، وفي الوقت نفسه ستقود هذه النتائج إلى توسع شريحة المسنين، وبالتالي يفرض دوراً جاداً وحقيقياً في حمايتهم، وتفعيل الاتفاقيات التي تضمن لهم حياة كريمة.

وهنا يجب أن تتقاسم الوزارات المعنية الدور في خدمة المسنين، لا أن يتركوا تحت رحمة الجمعيات الخيرية التي تدعمها الدولة أحياناً، وما دور المسنين سوى وسيلة بدائية للرعاية في ظل الأوضاع التي تعانيها هذه الدور، وما يواجهها من بعد اجتماعي ما زال يرى في وضع المسن في مصح أو دار للعجزة عيباً أو سمعة سيئة.

في الدور الذي تخص وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تتلخص في حديث سريع في أحد ممرات الوزارة مع أحد المعنيين حول جديد الوزارة فيما يتعلق فقط في الدراسات التي تعنى بالمسنين، أجابني المسؤول بعد أن قدمت له نفسي بصفتي أعدّ بحثاً ولست أتحدث كإعلامي: بصراحة ليس لدينا في هذه الفترة أي جديد يتعلق بهذا الموضوع؟.

أما على الأرض فربما تكون إجابة الوزارة أننا في سورية أعددنا القوانين التي تتماشى مع أحدث القوانين في العالم، وأننا هيأنا صندوق الرفاه الاجتماعي، وان عدد دور رعاية المسنين حوالي 20 داراً، اثنتان للدولة.

السؤال إذا كان عدد المسنين في سورية اقترب في عام 2005 من %5 من إجمالي عدد السكان، أي حوالي 900.000 مسناً، فما هو عدد دور الرعاية التي يجب تأمينها لمساعدة من يحتاج من بين هؤلاء؟.

وهنا من المفيد النظر إلى المتقاعدين خارج المؤمنين صحياً وأعدادهم كبيرة، أو من يسقط عنهم حق الرعاية الصحية بمجرد تقاعدهم والذين ينضمون إلى جيش المسنين.. وخصوصاً أولئك الذين يتركهم القطاع الخاص لجمعياته الخيرية الإسعافية التي يقدم أغلبها خدماته وفق انتماءات ضيقة.

 مصير واحد

لا يختلف المصير الذي ينتهون إليه إلا قليلاً باختلاف المهن التي يعمل بها المسنون، وتبقى (مهنة) التسول الأسهل بالنسبة للمسن، فهي لا تحتاج إلا حفظ بعض الأدعية، وتجديد أسلوب الاستجداء، وإلى منظر بائس وفرته الطبيعة والشقاء.

في سوق الهال القديم ينتشر المسنون بما تيسر من بضائع يشترونها، أو من مزروعات بسيطة كالخضار ليؤمنوا بعض رزقهم، فيما تجاهد نسوة بافتراش الطرقات المزدحمة لتبيع الخبز البلدي (التنور) وهذا أوهن من مد اليد للآخرين.

معاق في أول شارع الجسر الأبيض يبيع الدخان المهرب والأقلام المتنوعة، وبعض السكاكر، ويتجاوز عمره السبعين عاماً.

ربما يكون هؤلاء أفضل حظاً من أولئك المسنين العميان الذين يجوبون الأسواق وينادون على قطع البسكويت، أو مسابح الصلاة، وقد يضطر احدهم أن يتحول إلى بهلوان يغني أو يعزف على (قصبة) صنعها بيديه.

على إشارات المرور يجلس المسن منادياً على علب المحارم الورقية، أو يقلد الأطفال المتسولين في مسح واجهات السيارات عسى يد تمتد إليه بعشر ليرات.

في الأرياف يبدو الوضع أسوأ حالاً فمصير المسنين هو العمل، وفي الصباح تمتلئ السيارات الزراعية بعشرات العاملين الذين يحملون إلى المزارع إما للحصاد، أو جني المحاصيل حسب الموسم، وأما العودة ففي السيارات نفسها، وتهم بسؤال أحدهم ماذا يدفع لك: 300 ليرة في اليوم، وهذا المبلغ أقل بالنسبة للنساء رغم أنهن الأكثر عملاً، فأصحاب المزارع ومتعهدو هذا النوع من العمالة يقولون أن النساء أكثر فعالية من الرجال في هكذا نوع من الأعمال.

 سوق العاملات الكبيرات

مسنات أبين أن يتسولن، فذهبن إلى سوق يمكن للمرأة أن تقدم فيها خدمة مقابل أجر ولو كان زهيداً، وهؤلاء لسن بعيدات عن أطماع بعض المتعهدين.

المتعهدون المختصون بتشغيل العاملات الكبيرات في السن يدركون من أين تؤكل الكتف، فقدمت العجائز إلى سوق ترغب بعامل خبير بأجر زهيد، ومن هنا نرى ازدهار تشغيل النسوة في أعمال المسح والتنظيف، وخدمة المنازل.

الأسر الميسورة في المجتمع أيضاً تساهم في توسيع قاعدة هذه العمالة الرخيصة، فتدفع بهؤلاء النسوة بين البيوت الميسورة، وتساهم في رفد هذا القطاع بنساء من كل الأعمار.

في المكاتب الفاخرة صار منظر امرأة عجوز تقدم الطلبات والضيافة أمراً عادياً، ويرفع من أسهم صاحب العمل الإنساني، بالرغم من قلة الأجر والدوام الطويل الذي يتجاوز العشر ساعات.

هذا في القطاع الخاص، أما في المؤسسات الحكومية ونرى المثال واضحاً في المنشآت الرياضية، حيث أغلب العاملات من كبيرات السن اللواتي بدلن من تاريخ الميلاد ليستطعن العمل، ويقمن بأعمال تنظيف الصالات الرياضية، والملاعب، وكذلك حدائق تلك المؤسسات، وبأجور بين 7-10 آلاف ليرة سورية، وبعقود تشغيل سنوية أو موسمية مؤقتة.

في الجامعات تنتشر عاملات التنظيف اللواتي يدير عملهن متعهد شاب، ويبدأ الدوام من السادسة والنصف صباحاً، ويحصلن على رواتبهن دون عقود تشغيل، فالعقد موقع بين المتعهد والجامعة، ووفق شروط بين الطرفين لا يتضمن حقوق العاملات، ولا التأمين الصحي على حياتهن من أخطار العمل وتبعاته.

بين النظرية والواقع

هل من الممكن أن يبقى الدور الذي تمارسه هذه الوزارات عالقاً بين إجراء الدراسات التي تكلف ما يمكن أن يساهم في رعاية مئات المسنين،  وتقديم العون المالي لهم، وفي ابرز أدوارها (الوزارات) عقد المؤتمرات والندوات، وإعداد البرامج التلفزيونية التي تصف أحوالهم، وإنجازاتها.

تقول مسؤولة صحية في حديثها عن دور وزارة الصحة: عمدت وزارة الصحة على تخصيص بند خاص بالمسنين لترفع درجة الاهتمام والوعي بدور المسن لينتقل إلى إنسان فعّال له دوره وحقوقه المضاعفة.

وعن دخول سورية في تطوير سياسة صحية خاصة بالمسنين تتابع المسؤولة الصحية : إن سورية بدأت بالفعل بتطوير سياسة صحية واجتماعية شاملة للمحافظة على صحة المسنين وتعزيزها، وتم وضع خطة وطنية، وتنفيذ برنامج وطني يتضمن نشاطات تدريبية وتعليمية حول الشيخوخة وأمراضها، والمشاكل الصحية التي يتعرض لها المسن وتدبيرها، ونشر الوعي حول احتياجات المسن الصحية والاجتماعية، وكيفية تلبيتها بمشاركة المجتمع.

أما في أبرز نقاط  الخطة الوطنية لرعاية المسنين فالوزارة تعمل على  توفير الخدمات الصحية والعلاجية والوقائية مجاناً للمسنين لتشمل كل مسني القطر، والتشخيص والكشف المبكر لأمراض الشيخوخة والتوعية الغذائية، والعمل على تأسيس فريق وطني متخصص في طب الشيخوخة، وتعزيز التعاون والتنسيق بين وزارة الصحة والجهات ذات العلاقة، وتعريف الجهات الأخرى بأهمية رعاية المسنين...الخ.

 أزمة ثقة

يبين أحد الاستطلاعات التي قام بها أحد المراكز المتخصصة حول الدور الرسمي لرعاية المسنين في سورية، أن الكثير من الناس لا يؤمنون بوجود الرعاية الحقيقية للمسنين في سورية بشكل مطلق، ومن خلال بعض دور المسنين ظهر العبث بحياة المسنين، وخصوصاً التي تتولاها الجمعيات الخيرية والتابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.

لماذا لا يؤمن المجتمع الأهلي بالدور الرسمي الذي تقوم به الدولة برعاية المسنين، الإجابة تتعلق بمدى السمعة الجيدة التي تحظى بها دور العجزة، وباقي المؤسسات التي تساهم في هذا الشأن.

 أنت مسن.. انتهى

من المشروع الوطني لرعاية المسنين ان تقوم وزارة النقل على سبيل المثال بتخفيض الأجرة للمسن،  وأن تخصص له بطاقة خاصة في المدينة تساعده على تلبية احتياجاته المادية بأقل تكلفة، بالإضافة إلى تهيئة الطرقات والحدائق والمواقف الرسمية لتسهّل على المسن القيام بنفسه بتلبية احتياجاته، مع التأكيد على فكرة الاهتمام بعمل المسنين بتفعيل دورهم كخبراء وأصحاب تجارب.

على الأرض يصعد المسن في الحافلة لا يقف له أحد إلا ما ندر، ولا أجور خاصة به، أما المسنون الذين ينظر إليهم على أنهم أصحاب خبرة ويمدد لهم في وظائفهم فهم كبار المسؤولين، والموظفون الصغار الذين احترفوا سرقة المال العام، وطي الملفات الهامة، وإدارة الفساد.