الفقراء.. خارج نطاق التغطية
إن لتحليل القرارات الاقتصادية للحكومة السورية دورا أساسيا في إيضاح جزء هام من موقف الحكومة من القوى الاجتماعية المتفاعلة في هذه الأحداث، حيث لايتوضح هذا الدور بسب تركيز الإعلام على الشق السياسي من الحدث، مما يغطي على أسباب الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية في ظل الأزمة.
إن الوضع السياسي المحتقن مبني على أسس اقتصادية مولدة للاحتقان الجماهيري كما أن هذه الأسس نفسها تساهم اليوم بشكل أو بآخر في تصاعد الأزمة. فكان وعلى سبيل المثال لا الحصر التصريح الأشهر لوزير الاقتصاد محمد نضال الشعار في حكومة تصريف الأعمال حيث أعلن وبكل صراحة عن عدم مسؤوليته عن ضبط الأسعار و(تحدث في مجلة الاقتصادي العدد133): «هناك ضبابية في ماهية المطلوب من حماية المستهلك، كثيرون يتحدثون عن ضرورة ضبط الأسعار وينسون أن أغلب الأسعار محررة في سورية منذ نحو سبع سنوات». لقد عبر هذا التصريح لوحده عن أحد أوجه الأزمة، أي بمعنى آخر أن الحكومة في لحظات الأزمة تعلن تبرؤها من السوق لتترك المواطن في مواجهة ضارية و حتمية معه.
إن السوق ليست الا كلمة مجردة تعبر عن المكان الذي تتحدد فيها الأسعار، والتي تعبر بدورها عن مصلحة المنتج وفقا للمسموح من نهب لقدرات المواطن. نرى أن الحكومة بذلك قد أنهت الجدل حول موقفها التاريخي من السوق وبالتالي موقفها من المواطن وانحازت لمصلحة المتحكمين بالأسعار وبدم بارد.
يعتقد البعض أن الحكومة الحالية عاجزة لأنها وريثة الحكومة السابقة والموصوفة بأنها الأشد سوءاً بتاريخ سورية، ولا أدل على هذه الفكرة ربما إلا بنود الخطة الخمسية الحادية عشرة وهي آخر ماتمخض عن فريق الليبراليين الجدد، والتي صاغتها هيئة تخطيط الدولة عشية انفجار الأزمة ومن ثم اختفت هذه الخطة بقدرة قادر بعد ان أعلن عامر لطفي رئيس هيئة تخطيط الدولة في فترة سابقة أنه تم تعديلها وفقا لمقتضيات الأزمة الحالية.
لاضرورة اليوم للحديث عن ما أنجبته تلك الخطة، لكن لاضير من ذكر الركن الأساسي فيها ليؤشر على العقلية التي حكمت القرار الاقتصادي خلال الفترة السابقة والتي مازالت تمتد رواسبها حتى اللحظة. لقد شاءت المصادفة التاريخية أن يكون موعد الإعلان عن الخطة على منبر جمعية العلوم الاقتصادية قبل عام ونيف تقريباً هو يوم 15 أذار 2011، أي نفس موعد انطلاق الاحتجاجات في سورية. تبين حينها أن نصف أموال الخطة 11 لم يتم تأمينها بعد، وقد كان مسعى الحكومة واضحاً بأن الاستثمارات الخارجية هي الحل لتغطية نصف أموال الخطة والتي يدعي واضعوها أنها حل استراتيجي لمشاكل السوريين.
ذكّرأحد ما عامر لطفي رئيس الهيئة بأن الأوضاع السياسية في المنطقة بدأت بالتحول باتجاه التوتر نتيجة الظروف الداخلية لكل بلد ونحن لسنا بمنأى عن هذه التحولات فهل يمكن رهن نصف طموحات السوريين للخارج أو للاحتمالات!!..
لن يجادل البعض كثيرا بتلك التوجهات طالما أنها صارت بحكم الماضي، لكن الواضح اليوم أن العقلية ذاتها مازالت تتحكم بقوت الشعب، حيث دأب وزير النفط على سبيل المثال وخلال فترات الأزمة والتوتر بالحديث عن ضرورة رفع أسعار المازوت، وهو الإجراء الذي اعترفت الحكومة بسلبياته وتبعاته المهلكة على الشعب والاقتصاد، وقد اعتبر هذا الإجراء حينها أحد الإجراءات المولدة للازمة، عندها قامت الحكومة بتخفيض سعر المازوت كاجراء عاجل بهدف استرضاء الناس لكن بعد أن فات الأوان.
طبعا لاتحسب الحكومة كعادتها كل الأبعاد فوقعت في فخ التوسع بالإنفاق دون البحث عن الموارد الحقيقية لهذا الإنفاق.
تعود الحكومة اليوم لسياسة رفع أسعار الطاقة حيث رفعت مجدداً سعر الليتر من 15 الى 20 ليرة سورية كإجراء يهدف إلى سد ثغرات في إيرادات الدولة، وهو إجراء يصفه البعض بالتخبط إلا أنه يدلل وبشكل قاطع على أن الحكومة تضحي فقط بجيوب المواطن، بينما قامت الحكومة في وقت سابق بإعفاءات ضريبة للمكلفين بضريبة دخل الأرباح الحقيقية، إضافة إلى تراجعها خلال أقل من أسبوع عن قرار حظر الاستيراد بضغط من غرف التجارة في بداية الأزمة.
لقد تبين وبشكل حاسم أن القرارات الصادرة خلال الأزمة عكست بالنهاية محصلة القوى الاجتماعية ضمن الاقتصاد السوري، فالليبرالية المهيمنة على القرار الاقتصادي ليست إلا تعبيرا سياسيا عن مصالح أصحاب الأرباح أي كبار الناهبين، بينما يبقى أصحاب الأجور وهم المنهوبون خارج نطاق الاكتراث الحكومي رغم كل ماتتطلبه الأزمة من إنصاف ضروري لغالبية الشعب العظمى كجزء من علاج الأزمة.