أشجارنا وغاباتنا وقود لنار الشتاء أزمة المازوت تدفع المواطن للبحث عن بدائل غير مشروعة
اعتاد المواطن السوري على مر السنوات الطويلة أن يكون شتاؤه متميزاً، ليس بالعواصف والأمطار والخيرات، بل بالهموم والأزمات والأعباء المختلفة التي تكاد تقصم ظهره، فمن هموم المؤونة لأشهر الشتاء وتكاليفها الباهظة، إلى افتتاح المدارس والأعباء المترتبة عليها من لباس وكتب ودفاتر ومصاريف أخرى كثيرة، ليصل أخيراً إلى رحلة البحث عن الدفء المترافقة مع الذل والإهانة والتعرض لكل أنواع الابتزاز والتحكم، فأمام محطات الوقود أصبح من المألوف أن ترى الطوابير الطويلة التي تصل إلى مئات الأمتار من الأجساد البشرية المتراصة والمتدافعة، والمتشاجرة أحياناً، في محاولة لسبق الآخر للحصول على بيدون المازوت ذي العشرين لتراً، الذي لا يكاد يكفي لأربعة أيام رغم التوفير والتقنين والتخفيف قدر المستطاع من إشعال المدفأة، ومَن أراد أن يحمي نفسه من مظهر الذل والبهدلة هذا، يحاول الحصول على صيد يُحسد عليه بإملاء مائتي ليتر في خزان بيته.
ولكن بعد أن يتعرض أيضاً لابتزاز من نوع آخر، حيث يتحكم الموزع بالسعر الذي يرتفع من 16 ل.س للتر الواحد إلى 22 أو 23 ل.س للتر الواحد، وتتم هذه الممارسات بعيداً عن اهتمام ومراقبة الجهات الرقابية التي أدارت ظهرها للمواطن بشكل كامل، ولم يعد من واجبها ضبط التلاعبات ومحاسبة المتلاعبين، بل تركت المواطن وحيداً يواجه جشع ضعاف النفوس والمحتكرين والمتلاعبين، وإذا حصل وقصد المواطن الشركة العامة لتوزيع المحروقات والمشتقات النفطية (سادكوب) للتسجيل على دور لتعبئة خزانه المنزلي، فالكثير من المواطنين لن تسعفهم الفرصة في الحصول على ذلك قبل نهاية فصل الشتاء، نظراً للازدحام الشديد الذي تشهده مراكز التسجيل، ونظراً للتحكم بالدور وابتزاز المواطنين وعمل الواسطات والمحسوبيات، ومن يدفع أكثر في عملية فساد واضحة أيضاً.
حلول فردية غير قانونية
تحت وطأة هذا الواقع المُذل ينطلق المواطن السوري في رحلة جديدة يؤمن فيها حاجياته بطرق وأساليب غير مشروعة، ولكنها بنظره أقل إهانة وإذلالاً، ومنها البحث عن الدفء باستخدام المدافئ الكهربائية التي تعتمد على التيار الكهربائي المستجر بطريقة غير مشروعة وغير نظامية، أو مدافئ الحطب التي يغذيها من أشجار مقتطعة جوراً واعتداء على الثروة الخضراء، في عملية تهدد مساحاتنا المشجرة أو الحراج الطبيعية بالاندثار والفناء خلال عقود قليلة، نظراً للجور الكبير في عملية تقطيع الأشجار واستخدامها في مدافئ الحطب، كحل شخصي بديل عن مدافئ المازوت.
حول هذه الظاهرة الخطيرة طلبت «قاسيون» من مراسليها في بعض المحافظات رصد ملامح هذه الظاهرة، ورأي المواطنين فيها، فكان لنا بدايةً هذه الملخصات، وسترصد «قاسيون» في العدد القادم على أرض الواقع بعض أماكن قطع الأشجار.
معظم مراسلينا في المحافظات أكدوا أن ارتفاع سعر المازوت وفقدانه من أغلب محطات الوقود وصعوبة الحصول عليه، سبَّب انخفاضاً كبيراً في استخدام مدافئ المازوت، وجعل الكثير من المواطنين في الأرياف يلجؤون إلى أساليب تدفئة غير مشروعة كتقطيع الأشجار المثمرة، وحتى الحية منها، وأشجار الغابات واستخدام حطبها في إشعال مواقد التدفئة، وفي بعض الأحيان لوحظ الاستجرار غير المشروع للطاقة الكهربائية واستخدامها في تشغيل السخانات والمدافئ الكهربائية، رغم الاحتمال الكبير للخطورة التي قد تسببها في المنازل، بسبب عدم تحمل أسلاك التمديدات للضغط العالي الذي تسببه السخانات الكهربائية.
أزمات بالجملة
ـ من ريف حمص الغربي قال المواطن (سمعان. ب): «لن نشتري هذا العام مدفأة مازوت بسبب البهدلة التي نلاقيها أثناء بحثنا عن بيدون مازوت أو سعينا لتعبئة الخزان، والابتزاز والقهر والضغط الذي نتعرض له في سبيل الحصول على مائتي ليتر من المازوت، وإذا حصلنا عليها، فإننا في الغالب نعجز عن تحمُّل ثمنها، فهي زيادة عن السعر الرسمي المحدد بـ16 ل.س للتر واصلاً إلى المنزل، يطلب الموزع أحياناً 20 ل.س ثمناً للتر، وأحياناً يصل حتى 25 ل.س، وإذا ما عجبك ما في مازوت، وهذه الأزمة ليست جديدة، بل نحن نتعرض لها كل سنة، ولكن هذه السنة جاءت الأزمة مضاعفة بسبب فقدان المازوت من الكازيات، وليس فقط غلاء سعره، لذلك فقد اصبحت مدافئ الحطب البديل الأوفر للمدافئ رغم الصعوبات أيضاً التي نتعرض لها في تأمين الحطب، فإما عليك أن تقطع الأشجار بنفسك، أو تشتري الحطب الذي بلغ سعر الطن منه 7000 ل.س، وهذا ليس بقليل، ولكنه أرحم من المازوت، فطنُّ الحطب يكفي لمدة شهرين تقريباً، بينما ثمن طن الحطب يؤمن لك من المازوت كمية لا تكفيك لمدة شهر، حيث نحتاج يومياً إلى 10 ليترات من المازوت على الأقل، مع التقنين والاقتصاد في تشعيل المدافئ، وسعر اللتر مع الاحتكار والابتزاز قد يصل إلى 25 ل.س، فمن أين سيجدها هذا المواطن الذي يعيش في كل ناحية من نواحي الحياة أزمة خانقة؟! من المازوت، إلى العمل، إلى العلم، إلى هموم المعيشة اليومية وارتفاع أسعار المواد الغذائية والتموينية بشكل مجنون، وكأنه ليس هناك دولة، وليس هناك قانون، وتحسُّ أن المسؤولين عن هذا البلد وأصحاب القرار فلَّتوا العالمين على بعضهم، والشاطر يكسب، والقوي يأكل الضعيف، وللأسف فإن 90% من شعبنا ضعفاء».
ـ المواطن (سليمان. ن) من ريف دمشق قال: «بسبب هذا الاستخفاف والبهدلة التي نواجهها في الحصول على المازوت فأنا لا يهمني غطاء أخضر ولا ثروة حراجية، وإنما تأمين الدفء لأطفالي هو الأولوية الكبرى عندي، وأنا مستعد لقطع الشجر حتى لو كان أخضر بعدما حرمتنا الحكومة من المازوت والغاز والكهرباء، فهذا أجبرني على استخدام مدفأة الحطب، وأحياناً أضطر لشراء ما ينقصني رغم ارتفاع سعر طن الحطب أيضاً، ورغم تحكم التجار وأصحاب المناشر».
إبداع.. وتحدّ
ـ المواطن (فواز. ح) من السويداء يقول: «كل الممارسات التي تقوم بها الحكومة ليست سوى تضييق فسحة العيش على المواطن السوري، فنتيجة أزمة المازوت وفقدانه من محطات الوقود، بحث المواطن عن بدائل لمدافئ المازوت بمدافئ الحطب والغاز والسخانات الكهربائية، وهنا فوجئ بالانقطاع المتكرر للكهرباء، بحجة التقنين الذي فضح تقصير المسؤولين في قطاع الكهرباء بإجراء الصيانات الدورية لمحطات التوليد والتوزيع رغم رصد مبالغ ضخمة لهذه المهمة، وكذلك وقع المواطن في أزمة نقص شديد في اسطوانات الغاز التي عز وجودها في مختلف المناطق السورية، ونسمع عن هذه الأزمة حتى في أقل المدن ازدحاماً، وارتفعت بشكل مفاجئ وغير معقول أسعار الحطب، ففقد المواطن السوري أغلب وسائل التدفئة، وهذه هي السياسات التي اتبعتها الحكومات المتتالية، حتى بما فيها الحكومة الحالية التي كنا نتمنى أن تكون حكومة إنقاذ للوطن من أزمته الحالية، فخلال عقود طويلة جعنا وعرينا وبردنا، فماذا يمكن أن نتحمل بعد؟! وتأكد تماماً أن لجوء المواطن إلى الأمور غير المشروعة مثل قطع الأشجار لتأمين الدفء لأطفاله إنما هي عبقرية وخطة تكتيكية لمواجهة صعوبة الأيام وممارسات الحكومة، وقد أثبتت الأيام والظروف التي عاشها المواطن السوري قدرته الفائقة على التأقلم مع مختلف الظروف المعيشية الصعبة، والتعامل معها والتغلب عليها، وهو قادر على الخلق والابتكار والتجديد كلما دعت الحاجة إلى ذلك!!».
هل من علاج للأزمة؟
إن ارتفاع أسعار المحروقات وفقدانها من السوق المحلية السورية وصعوبة الحصول عليها، تسبب في إحجام الكثير من المواطنين عن استخدام المدافئ التي تعمل على المازوت، لتصبح مدافئ الحطب البديل الأنسب، لاسيما وأن غالبية المواطنين أصبحوا لا يرون ضرراً من تأمين حاجتهم من الوقود من خلال الاعتداء على الأحراش والغابات كوسيلة للتدفئة، لتخفيف الأعباء المالية، وخصوصاً على العائلات السورية من ذوي الدخل المحدود.
إن الإقبال الشديد على استخدام مدافئ الحطب دفع العديد من المواطنين إلى قطع الأشجار الحراجية أو المثمرة للإتجار بها، ولكن تحت حجة تحسين نوعها، وانتشرت العشرات من أسواق بيع الحطب في مختلف المحافظات السورية، وهناك هجمة غير مسبوقة لإزالة ما تبقى من أشجار الحراج الطبيعية المعروفة منذ أقدم العصور بغاباتها الكثيفة. وهذه الأسواق باتت تهدد المساحات الخضراء التي أصبح مصيرها رهناً باستمرار الأزمة، ويساهم في استمرار هذه التعديات على الغطاء الأخضر تغاضي الكثير من عناصر الضابطة الحراجية عن المخالفين للقوانين الذين يقومون بقطع الأشجار، فيتم التغاضي عنهم إما لواسطة أو محسوبيات، حيث أن من يتجرأ على قطع الأشجار يكون صديقاً لفلان أو يقطعها لمصلحة فلان، أو يتم التغاضي عنهم بعد أن يقبض حامي الثروة الحراجية ثمن سكوته وغض النظر.
إن الاستمرار في عمليات التحطيب الجائر ومسلسل الاعتداءات المتكررة على الأشجار يشكل خطراً محدقاً على واقع الثروة الحراجية، وحتى الأشجار المثمرة، فالتحطيب الجائر اكتسح مساحات كبيرة من بعض الغابات الخضراء والحراج التي باتت مهددة بالزوال بفعل ذلك. وما بين السكوت عن هذا الأمر أو التغافل عنه باتت الكارثة قريبة، ولا يمكن بعد الآن للجهات المسؤولة الوقوف مكتوفة الأيدي أو التغاضي عما يحدث للثروة الحراجية، ويجب معاقبة الحطابين وتوقيفهم وملاحقتهم قضائياً، لضمان حماية الغطاء الأخضر.