من الذاكرة : لغتنا جميلة
بداية يطيب لي ويسعدني، كمدرس متقاعد مارس التعليم لأكثر من أربعين عاماً، من مسعدة في الجولان إلى عفرين وجرابلس في أقصى الشمال إلى البصيرة في دير الزور وانتهاءً في دمشق، يطيب لي أن أتوجه بأعطر التحية وأصدق التقدير إلى جميع المعلمين في سورية الغالية بيوم عيدهم مردداً قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
قمْ للمعلّم وَفّهِ التبجيلا *** كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولا
فمكانة المربين وجليل احترامهم حصيلة عطائهم الصادق من القلوب والعقول.. الذي ترك في نفوس المتعلمين ما ليس ينسى أبداً، وهذا أمر يعترف به كل من حظيَ بمعلم كان في منزلة الأب والأخ والصديق..
ومن هؤلاء الأفاضل الأستاذ القدير نهاد التكريتي أستاذنا في التجهيز الأولى في أول خمسينيات القرن الماضي، مؤلف كتاب المغني الحديث في اللغة العربية، الذي سعى من خلاله إلى تسهيل العربية لطلاب العربية، وتلبية لحاجاتهم الماسة في كتاب جامع ينشد كمال الوضوح والتيسير ولإيجاز.
وعودة بالذاكرة إلى الصف السادس الذي كان المحطة التي انطلق منها حبي للغة العربية.. فغدا الاهتمام بها هاجسي لسنين طويلة. وللأستاذ نهاد يد بيضاء عليّ وعلى المئات من الطلاب الذين نهلوا من معينه اللغوي الثّر.. فقد كان مثال المربي والمدرس الناجح.. رائع الشرح والتطبيق، ما من قاعدة نحوية ولغوية إلا وأغناها بفيض محفوظاته من أبيات شعر الفحول.. يسجل الخلاصة على يمين السبورة، والشاهد من الشعر على يسارها. وبصوته الرخيم الآسر يترنم بقراءة البيت ثم يتبع ذلك بلازمة لا يخرج عنها: ((البيت من البحر... قاله الشاعر... ومعناه...))
ومما بقي في الذاكرة حتى اليوم درس عن بعض الفوائد اللغوية ومنها كلمة «هلّا» فهي إن دخلت على الفعل الماضي كانت للتوبيخ مثال: هلّا درست!، وإن دخلت على الفعل المضارع كانت للتحضيض مثال: هلّا تحفظ الخلاصة. وأذكر أن الشاهد على هذه القاعدة كان بيتاً من شعر عنترة بن شداد العبسي وهو:
هلّا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ
إنْ كنتِ جاهلةً بما لمْ تعلمي
وبعد شرح البيت أثار المدرس نقاشاً حين سألنا: يا أبنائي.. هل من ملاحظة حول معنى البيت؟! فانبرى طالبٌ تميز باجتهاده وبقدرته على المناقشة الجدية الواعية قائلاً: أستاذ.. من الطبيعي أن يكون الجاهل بالشيء غير عالم به... وهو تحصيل حاصل.
فقال المدرس: لقد أصبت يا بني وأحسنت التعبير بالقول السليم!