نموذج الاختباء خلف الأصابع
بين الحين والآخر، تطالعنا وسائل الإعلام بأخبار عن نقل بعض الموظفين نتيجة أعمال التدقيق والتفتيش، وغيرها من الوسائل الإدارية، تحت عناوين «الكشف عن مواضع الخلل والشبهات بالعمل الحكومي في الدوائر الرسمية».
آخر ما حرر كان الخبر عن نقل بعض الموظفين في قطاع السلطة القضائية هذه المرة، وذلك من قبل إدارة التفتيش القضائي، التي كلفت بموجب تعميم من وزارة العدل لبيان أسباب عدم فصل الدعاوى القديمة، والذي تبين بالنتيجة أن بعض الموظفين كانوا سبباً في تأخير الفصل فيها.
قبل ذلك، تصدرت العناوين أخبار عن نقل بعض الموظفين في الجمارك، وقبلها بفترة قصيرة كان الخبر عن نقل بعض العاملين في مديرية مالية دمشق.
وهكذا، على مدى سنين وعقود خلت، تتجذر معظم مسببات التقصير في العمل الحكومي، والخلل أو الفساد فيه، وتنحصر مسؤولياته بالموظفين والعاملين في مستويات العمل الدنيا، ليصار إلى فرض العقوبات بحقهم، نقلاً أو حسماً من الأجر، وغيرها من العقوبات ذات الطابع الإداري، ولتطوى بموجبها ملفات التقصير والخلل والفساد في هذا القطاع أو ذاك بهذا الشكل، ريثما يستعيد زخمه مرة أخرى بمخالفات وتجاوزات جديدة، كي تتم معالجتها وفقاً لنفس الآلية دون تغيير، والتي يكون الموظف الصغير ضحيتها غالباً، اللهم باستثناء بعض الملفات التي يتم اعتبارها كبيرة، فتطال بعض الموظفين من الحلقات الوظيفية الوسيطة، وغالباً ما تكون الإجراءات مقتصرة أيضاً على النقل والتغريم والحسم، بما في ذلك تلك المحالة للقضاء، والتي يمكن أن تصل عقوباتها، بالإضافة للأشكال الإدارية السابقة، لحد السجن لبضعة أعوام، «ويا دار ما دخلك شر»!
لسنا هنا في معرض الحديث عن الإجراءات العقابية المتبعة بحق من يثبت تورطه فعلاً، على الرغم من ضرورة وأهمية إعادة النظر بها، إلا أن ما يهم بموضوع الكشف عن التجاوزات هو ما يجب أن يتم اتخاذه من إجراءات من أجل منع إعادة إنتاجها المرة تلو الأخرى، وذلك بالغوص بأسبابها ومبرراتها والثغرات التي تعبر من خلالها تلك التجاوزات، حيث ومن دون ذلك فإن إعادة الإنتاج لهذه التجاوزات ستستمر من كل بد، كما ستستمر عمليات تجذير المسؤولية بها على مستوى الحلقات الأدنى في العمل الوظيفي الحكومي، حيث تتمكن الحلقات الأعلى، غالباً، من التهرب والتفلت من المسؤولية بكل سلاسة ويسر، بحكم موقعها وعلاقاتها، وهو عملياً ما جرى ويجري، مع عدم إغفال المصالح المرتبطة بهذه المخالفات والتجاوزات، وخاصة الكبيرة منها، والتي غالباً ما يكون ضحيتها المواطن العادي المسحوق والمغلوب على أمره، والمستفيد هي تلك الشريحة الثرية والمغتنية على أكتفاه، كما على أكتاف الجهات العامة، والبلد بالنتيجة.
ولن نكون مجافين للحقيقة بقولنا بأن المشكلة الأس التي تنجم عنها التجاوزات والمخالفات على كافة مستويات العمل الحكومي، بل وعلى المستوى الاقتصادي الاجتماعي أيضاً، تتجذر عملياً بالسياسات العامة المتبعة، التي تثبت الأيام بأنها ممر العبور لكل التجاوزات والموبقات.
فالسياسة الأجرية متروكة بوابة مشرعة لتسويغ ولتبرير الفساد الصغير والكبير، والسياسة المالية والنقدية ممر عبور للتهرب الضريبي والمضاربات بالعملة، والسياسة الاقتصادية ممر لإضعاف العملية الإنتاجية وللمزيد من التهريب والتحكم بالاقتصاد الوطني، والسياسة السعرية سبباً في عدم استقرار الأسواق والمزيد من التحكم والاحتكار فيها، والسياسات الإدارية ممراً للمحسوبيات والوساطات، وهكذا... لتسرح وتمرح مصالح كبار التجار والمستوردين والمصدرين والمهربين والمضاربين والسماسرة والمحتالين والفاسدين، وغيرهم من ممثلي «الشريحة المخملية» البعيدة عن المسائلة والمحاسبة، على حساب مصالح بقية الشرائح الاجتماعية، وخاصة المُفقرة منها.
والنتيجة أن ما يجري عملياً لا يمكن تفسيره إلا بأنه نموذج، معاد ومكرر، من الاختباء خلف الأصابع، مع الخشية من توجيه الاتهام والإدانة لهذه السياسات جملة وتفصيلاً، والارتعاد من فضح ارتباطات هذه السياسات بمصالح الحيتان الكبيرة المستفيدين منها، والمحابية لمصالحهم بالواقع العملي.