البنك الدولي ينصحنا (بصون القديم)
(خسائر الحرب.. التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا) هو عنوان آخر، تقرير صادر عن البنك الدولي بتاريخ 7-2017، التقرير الذي يجري مسحاً للآثار الاقتصادية والاجتماعية حتى بداية العام الحالي يقدم لنا نصيحة، ومن عادة نصائحه أن تأخذ «الجمل بما حمل».
يركز التقرير الدولي على فكرة هامة حول ما يسميه «التنظيم الاقتصادي» الذي يعتبره العامل الأكثر تأثيراً وتحديداً لحجم الخسائر والدمار في ظروف الحرب ليتعدى تأثيره تأثير دمار رأس المال وهجرة السكان، وفي مقولة البنك (حق يراد به باطل).
يشير التقرير إلى أن التنظيم الاقتصادي، هو ما يرتبط بالبنية المؤسساتية الاقتصادية، وعلاقات الناس الاقتصادية ببعضها البعض، وشبكات الحوافز الإنتاجية بين السكان، وسلاسل التوريد وغيرها. مشيراً إلى أن مستوى أداء التنظيم الاقتصادي، وتشوهه وتدهوره خلال الحرب له تأثير أكبر من دمار رأس المال، فإذا ما فقدنا رأس المال، وبقي التنظيم الاقتصادي جيداً فإننا نخسر 22% من الاستثمارات فقط، بينما إذا خسرنا رأس المال وتلقى التنظيم الاقتصادي خضات كبرى فإننا قد نخسر 80% من الاستثمارات، نتيجة انعدام الربحية وفق ما يقدره البنك في مقارنة بين نموذجين افتراضيين.
وهو عملياً يقول: إن اختلال التنظيم الاقتصادي في سورية خلال الحرب، أدى عملياً إلى خسارات أكثر من خسارة الدمار، ولو كان تنظيمنا الاقتصادي مستمراً فإن المحافظة على الربحية كان ممكناً، ولتمتعت رؤوس الأموال بالمرونة، وبقيت في سورية. وأنّ ما علينا أن نفعله في مرحلة إعادة الإعمار هو: إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية واستعادة الشبكات الاقتصادية، وليس استبدال رأس المال في حد ذاته فقط.
حق يراد به باطل!
فهل البنك الدولي على حق؟ منطقياً فإن ما يسميه التقرير «التنظيم الاقتصادي» ونسميه نحن بصورة أوسع علاقات الإنتاج، له تأثير مفصلي على طبيعة النمو والتنمية الاقتصاديين في مراحل معينة، وله تأثيره كذلك على قرارات رأس المال، وعلى الربحية، وعلى عمل المؤسسات والسياسات، وعلى مصير التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وهذا ما تحدثنا عنه سابقاً حول التشوهات العميقة في البنية الاقتصادية السورية، فملكية رؤوس الأموال المتمركزة لدى قلة، وسعيهم نحو زيادة ربحيتهم، تجعلهم لا يستثمرون في سورية بل خارجها، لأن الربحية في البنية الاقتصادية السورية المتخلفة قليلة، وتجعلهم يحددون علاقات التوزيع داخل سورية بشكل جائر، فيوزعون للأجور حصة قليلة، والحصة العظمى للأرباح الكبيرة، وكل هذا يرتبط إلى حد بعيد بالبنية الاقتصادية المتخلفة، ومنظومة العلاقات الاقتصادية الخارجية التابعة، والفساد الكبير في إدارة المؤسسات والسياسات، الذي يجعل أصحاب المصالح والقرار في السياسة الاقتصادية غير راغبين بأية محاولة لتقدم اقتصادي جدي، فالموجود كان جيداً بالنسبة لهم. ولدخولهم، ودخول أصحاب الربح الكبير، طالما أنهم قلة متحكمة.
البنك الدولي لا يقصد بالطبع بإعادة تكوين التنظيم الاقتصادي وعلاقات الإنتاج أن ينتقد ما انتقدناه سابقاً، بل على العكس، فإن المؤسسة الدولية لا ترى في نموذج التنظيم الاقتصادي السوري قبل الأزمة عيوباً كبرى، بل يشيد التقرير بأداء النمو السابق، ويشير بامتعاض إلى «أضرار الفساد». بل إن البنك الدولي في تقرير سابق كان قد تبنى طرح عبد الله الدردري النائب الاقتصادي السابق، عندما أدار خطة عمل لإعادة الإعمار قائمة على النموذج الليبرالي السابق.
ولكن بعيداً عن نوايا البنك الدولي ومنهجه، الذي لا يجهله أحد، فإن الفكرة التي تقول: بأن الاستثمار وتدفق الأموال وحده لن يكفي، هي فكرة صحيحة، وينبغي أن يستبق السوريون البنك الدولي ويقدموا رؤيتهم (للتنظيم الاقتصادي) الفعلي المطلوب.
ثلاث مهمات لتنظيمنا الاقتصادي الفعلي
ولكن رغم تعقيد المسألة وكثرة العوامل، إلّا أنه يمكن أن نحدد أهدافاً أساسية لنجاح عملية إعادة الإعمار، الأولى: تتعلق بتأمين التمويل الكافي والضروري لتعويض الدمار وتنفيذ المهمات، وهو الذي ينبغي أن يكون من التعويضات بالدرجة الأولى، ومن الشراكات الاستثمارية الكبرى الأقل آثاراً وشروطاً والأكثر تعاوناً. أما الثانية: فتتعلق بالربحية أو العائدية، أي: كمّ الدخل الناتج عن كمّ من الاستثمار، ولتوضيح حجم المهمة في هذا السياق ينبغي أن نقول أنه: في حال توفرت لدينا استثمارات بمقدار يقارب 140 مليار دولار، فإننا نستطيع العودة إلى مستوى عام 2010 ولكن ليس قبل ست سنوات، وبمعدل نمو يقارب 16% سنوياً، وهذا لا يتحقق إلا برفع العائدية إلى الضعف، أي: إلى نسبة تفوق 30%، فكلما قلّت الأموال المتوفرة كلما زادت الحاجة إلى عائدية أعلى، وبالتالي إلى تنظيم أعلى للنشاط الاقتصادي، ورفع أدائِه بشكل ووتائر منظمة، وتنظيم علاقاته التجارية، والتأثير على مجمل العوامل التي تؤثر على رفع مستوى الأداء. وأهمها قدرات القوى العاملة وتوفرها، وإنتاجيتها التي ترتبط بالمهمة الأساسية الثالثة: وهي توزيع الدخل، حصة الأجور، وحصة صغار المنتجين وضمان عوائدهم، وحصة الأرباح الكبيرة ودخل المستثمرين، وحصة المال العام من كل ذلك، وطريقة توزيعه مجدداً على الاستثمار والإنفاق العام. فعملياً: إذا لم تتحقق مهمة إيجاد صيغة متوازنة لتوزيع الدخل، فإن مهمة النمو لن تتحقق، وسيتمركز الدخل ربحاً لدى المستثمرين، أو سمسرة لدى الفاسدين كما كان سابقاً.
البنك الدولي لا يريدنا أن نعيد (التنظيم الاقتصادي) لعلاقات الإنتاج والتوزيع، بشكل مناهض لليبرالية، وبشكل مخالف لمصلحة قوى المال العالمي التي يهمها حصة من إعادة الإعمار، وضمان العلاقات والنخب السابقة التي كانت تحول الجزء الأكبر من دخل سورية أرباحاً تستثمر في الخارج. ولكن شكل النظام الاقتصادي الذي ينصح به ويدفع إليه، أصبح أولاً: صعب الترويج، لأنه فقد الهيمنة المطلقة لرعاته، فلسنا محصورين اليوم بأموال الغرب ونمط تمويله وإعادة إعماره، وثانياً: هذا النظام الاقتصادي خبره الشعب السوري قبل الأزمة، ولن يسمح بتجربته مرة ثانية عندما تتيح الظروف السياسية لغالبية السوريين تغيير علاقات الإنتاج القديمة، وبناء علاقات جديدة تسمح بالتطور والسير للأمام في مهمة ومعركة معقدة ولكنها الطريق الوحيد