الأزمة الاقتصادية العالمية: الجذور – الآفاق – الانعكاسات
قدّم د. قدري جميل في المركز الثقافي العربي بالمزة يوم الثلاثاء 10/3/2009 محاضرة بعنوان «الأزمة الاقتصادية العالمية: الجذور – الآفاق – الانعكاسات»، وذلك في إطار فعاليات الثلاثاء الاقتصادي الذي تقيمه جمعية العلوم الاقتصادية.. فيما يلي النص الكامل للمحاضرة
إن الإعلام الغربي لم يعترف أبداً بحجم الأزمة الحقيقي، وهو دائماً يتأخر عن توصيفها طوراً بكامله، فعند بدء الأزمة كان هناك عدم اعتراف كلي بها، كان ينكر ويكابر.. وحين اضطر أن يعترف بالأزمة رآها عابرة بسيطة، وعندما كبرت قال: إنها أزمة مالية.. ولكن الأزمة كانت قد تحولت إلى أزمة اقتصادية.. إنهم دائماً لا يقولون الحقيقة، وإذا قالوها فإنهم يقولون نصفها، ويقولون اليوم إن 2009 هو أسوأ مراحل الأزمة وأنها ستنتهي بانتهائه، ولكن لا 2009 ولا 2010 سيحلان الموضوع.
1 ـ الأسباب الأساسية العميقة.. والأسباب الثانوية
يجب تحديد الأسباب الأساسية الحقيقية للأزمة، ويجب أن يجري الفصل ما بين الأسباب العميقة الأساسية والثانوية المباشرة.. إن الإعلام يلعب لعبته فيقدم لنا الأسباب المباشرة على أساس أنها الأسباب الوحيدة، ولكنها في الحقيقة هي الظاهرية، أي التي تظهر على السطح، ويجري إخفاء الأسباب العميقة، فماذا يقولون؟
"إن الأزمة هي أزمة رهن عقاري الأمر الذي كان سبباً أساسياً لها، ويضيفون عدداً من الأسباب الأخرى مثل: تخفيض معدلات الفائدة إلى جانب الجشع والطمع والاحتيال وسوء تصرف المدراء، والمشتقات المالية، وغياب الرقابة الفعالة على الأسواق المالية، وفشل وكالات التصنيف الائتماني".
ولكن.. أين هي الأسباب العميقة للأزمة؟ لمعرفة ذلك علينا الذهاب إلى أزمة عام 1929، حيث كانت تسمى بالأدب العلمي أزمة دورية، أي أزمة «فيض الإنتاج» بالمعنى الكلاسيكي. ومن حيث الفترة الزمنية استمرت هذه الأزمة من 29 ـ 39، وبدأت تتراجع مع بداية الحرب العالمية الثانية، وبنهاية الحرب انتعشت أمريكا وأصبحت قوة عظمى بكل المعاني الاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية. وكانت هذه الأزمة أخطر من سابقاتها لأن الظرف الجديد الذي حدثت فيه هو أنها كانت أول أزمة من نوعها تحدث بوجود نظام نقيض، اسمه النظام الاشتراكي. وهو النظام الذي ظهر على أثر ثورة أكتوبر عام 1917، والتي لأول مرة في التاريخ قدّمت مكاسب اجتماعية كبيرة لم يكن الغرب يعرفها؛ كالإجازة السنوية مدفوعة الأجر، وتحديد عدد ساعات العمل، والتأمينات الاجتماعية..الخ. وفي الثلاثينيات، اتهم الرئيس «الديمقراطي» روزفلت بالشيوعية من غلاة المتطرفين الرجعيين في أمريكا لأنه أدخل إصلاحات تجميلية إلى النظام الرأسمالي، مستفيداً من التجربة الاشتراكية الجديدة، وفي الواقع فقد كان يحاول بذكاء إنقاذ الرأسمالية. لذلك كان الاستنتاج الرئيسي بالنسبة لأولي الأمر في النظام الرأسمالي أنه (يجب ألا تتكرر أزمة بهذا الشكل)، لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى انهيار شامل بسبب وجود بديل نقيض على النطاق العالمي، وكان المخرج الذي أوجدوه لذلك هو ابتداع "المجمع الصناعي- العسكري".
ما جوهر الأزمة الدورية، أي ما يسمى فيض الإنتاج؟ إن الرأسمالية غير قادرة على ضبط العرض والطلب والتوازن بينهما، والحقيقة هي أن هذه العملية تتم بشكل عفوي وفوضوي، عبر إلقاء البن في البحر، وحرق البرتقال وإتلاف المنتوجات حتى لا تهبط الأسعار..
ما الحل حتى لا يؤدي هذا المرض الوظيفي في الرأسمالية إلى هزة؟ الحل هو تحويل فائض الإنتاج الذي يعبر بجوهره عن كميات عمل منتجة ولكن غير مستخدمة إلى إنتاج مزيد من السلاح. وهكذا بدأ يتحول فيض الإنتاج بالتدريج إلى إنتاج السلاح والذي أصبح أهم نظام "تأريض" لفيض الإنتاج. وهذا كان بداية انطلاق "المجمع الصناعي- العسكري الأمريكي" الذي حذر منه أيزنهاور في خطبة الوداع عام 1962. وخلال الـ 20 سنة السابقة مثلاً كل حكام الصف الأول في أمريكا تم انتدابهم إلى البيت الأبيض من قبل الشركات المرتبطة بـ"المجمع الصناعي العسكري".. وما أن ينهوا مهماتهم حتى يعودوا إلى وظائفهم. لقد تحولت صناعة السلاح بالنسبة للولايات المتحدة وللنظام الرأسمالي إلى صناعة رابحة جداً، وإلى أداة سياسية هامة لفرض السيطرة خارج الحدود. ولمعرفة أهمية المجمع الصناعي العسكري اليوم في الاقتصاد الأمريكي تقول التقديرات إنه ينتج 60% من الإنتاج الصناعي ويعمل في خدمته 240 ألف مؤسسة.
حتى أربعينات القرن الماضي كانت كل عملة تغطي نفسها بالذهب، وحين بدأت نتائج الحرب العالمية الثانية تتوضح للعيان، اجتمعت البلدان الرأسمالية الأساسية عام 1944 واتفقت أن تغطي كل واحدة منها عملتها بالدولار والذهب، أي منح الدولار وضع الذهب دون إعفائه من تغطية نفسه بالذهب، ولكن الدولار بدأ يلعب دورين؛ دور العملة المحلية لأمريكا، ودور عملة عالمية.
وكان هذا الأمر منطقياً وطبيعياً في حينه لأن وضع الدولار كان انعكاساً لوضع الاقتصاد الأمريكي الذي خرج من الحرب العالمية الثانية منتعشاً، فأوروبا- القارة العجوز- كان قد جرى تدمير بنيتها المادية من شرقها إلى غربها، وفقدت أكثر من 50 مليون قتيلاً في الحرب، بينما لم يصب الاقتصاد الأمريكي بأي تدمير، وكانت خسائر الولايات المتحدة في الحرب ضئيلةً بالمقارنة مع أوروبا (200 ألف قتيل)، وأدى هذا الأمر إلى وضع الاقتصاد الأمريكي في الطليعة عالمياً، حيث بلغ إنتاجه 30% من الإنتاج العالمي و50% من إنتاج العالم الرأسمالي، إذا استثنينا المعسكر الاشتراكي الناشئ مجدداً.
هكذا ولدت بريتن وودز وكانت نقلة خطيرة جداً، إذ بدأت منذ ذلك الحين «الزوغلة» الأمريكية، والاحتيال الأمريكي على العالم كله بإصدار نقد ورقي لا قيمة فعلية له، نقد غير مغطى بالذهب! وهذا معناه أن 100 دولار ورقية كلفتها 4 سنت يمكن أن تشتري 30 برميل نفط (على أساس سعر البرميل آنذاك) بتكلفة 4 سنتات فقط. هكذا تمت أكبر عملية نهب في التاريخ لم يشهد لها أحد مثيلاً.
ماركس كان يقول في كتاب رأس المال إنه إذا وصل الرأسمال إلى الربح 300% فليس هناك جريمة لن يتوانى عن ارتكابها، لكن ماركس لم يكن يحلم بأن 4 سنتات ستأتي بـ100 دولار أي 250 ألف بالمئة.
شعر ديغول في أواخر الستينيات بخطورة هذا الأمر فكلفه ذلك غالياً، حيث جمّع كل الدولارات الأمريكية الموجودة في المصارف الفرنسية وحملها إلى الأمريكيين، وقال لهم: أعطوني ذهباً مقابل هذه الدولارات. اضطروا في حينه أن يعطوه 200 طن من الذهب، لكن مقابل ذلك اتخذوا إجراءين بسيطين؛ أول إجراء أزاحوا ديغول، والثاني ألغوا ارتباط الذهب بالدولار 1971، أي ألغوا اتفاق بريتن وودز!.
منذ ذلك الحين وآلة الطباعة الأمريكية تعمل بتسارع متزايد، حيث أصبح الدولار محمياً بفضل عاملين؛ القوة السابقة الأمريكية التي فرضت تسعير جميع المواد الخام في العالم بالدولار وثبت وضعه كعملة عالمية، وبفضل وجود قوة عسكرية تحميه وقت اللزوم.
إذاً، وصلنا إلى وضع فريد من نوعه، ففي السابق كان الفائض بالإنتاج الرأسمالي هو بضائع، أما الفائض الجديد فهو سلاح ومال، وفي ذلك تجل لعلاقة جدلية، حيث يحمي فائض السلاح وضع الدولار عالمياً، وحيث يقوم فائض المال بالصرف على السلاح.. وإلاّ فمن أين يصرف الأمريكيون على 1000 قاعدة عسكرية في العالم؟ من هذه الدولارات التي يطبعونها ويرمونها في البلدان الأخرى.
يتبين اليوم أن الاقتصاد الأمريكي، البالغ حجمه 13 تريليون دولار والذي يعادل تقريباً 20% من الاقتصاد العالمي، مغطى بإنتاج سلعي حقيقي بحدود 18% زراعة وصناعة. أما الباقي فهو ريع القوة العسكرية وريع الدولار الاحتيالي
2ـ بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية
ما هي العلاقة بين كتلة النقد في التداول وبين كتلة السلع الموجودة في التداول؟!
حتى الذي ليس له علاقة بالاقتصاد يعرف أنه إذا زادت كتلة النقد عن كتلة السلع يسمى الأمر تضخماً، أي أن قيمة العملة تنخفض بينما ترتفع الأسعار، ما يعني تأثر أصحاب الدخل المحدود في حين يربح أصحاب الأسعار أضعافاً. هذا يحسب على نطاق كل بلد على حدة.. ولكن كيف يحسب على النطاق العالمي؟
رغم اختلاف الآراء، يقولون إن حجم الإنتاج العالمي اليوم هو بالحد الأدنى هو 40 تريليون دولار، وبالحد الأعلى 60 تريليون. ولكن ما حجم كتلة النقد التي يجب أن تخدمه؟
إنها يجب ألا تكون أكثر من حجمه، هذا إذا اعتبرنا أن وحدة العملة تخدِّم البضاعة مرةً واحدةً في السنة، ولكن الأمر أكثر من هذا، هذا يعني أنه يجب أن يكون هناك 60 تريليون دولار من كتلة النقد، وإذا اعتبرنا أن نصف العالم يتبادل إنتاجه بالدولار، فإن حجم كتلة النقد الدولارية يجب ألاّ تزيد عن 30 تريليون دولاراً حول العالم.. وإذا اعتبرنا أن سرعة دوران النقد، آخذين بعين الاعتبار دور البورصات وتسريعها لهذه العملية، ليس أقل من خمس دورات في السنة الواحدة، فإن الكتلة الدولارية الضرورية لتخديم الإنتاج العالمي اليوم يجب ألاّ تتجاوز 30 / 5 = 6 تريليون دولار أمريكي، ولكن الحد الأدنى المتداول حالياً من الدولار والذي يتحدث به أكثر المتفائلين هو: 600 تريليون دولار! وهناك من يقول إنه وصل إلى 1000 تريليون.
وهكذا، فإنه إذا كانت الكتلة السلعية 30 تريليون والكتلة الدولارية بين 600 و1000 تريليون دولار، فإن ذلك يعني أن كتلة الدولار في التداول العالمي هي أكثر من الحاجة الفعلية للسوق العالمية بـ 600 / 6 = 100 مرة أكتر، أو 1000 / 6 = 170 مرة تقريباً، وهذه أرقام خيالية. فكيف وصلت الأمور إلى هنا؟!
منذ عام 1944 وحتى 1991 (تاريخ سقوط الاتحاد السوفييتي) كانت حاجة السوق العالمية إلى عملة تداول في ازدياد، بسبب تزايد ترابط العالم واتساع السوق وتطور نظام الاتصالات باضطراد، لذلك كان ازدياد طباعة الدولار يختفي بغزو مناطق جديدة وجديدة. ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وتحول الصين إلى اقتصاد السوق وهيمنة علاقات الإنتاج الرأسمالية في العالم الثالث انتهى الإمكانية اللاحقة لتوسع انتشار الدولار، والأنكى من ذلك أنه مع انتهاء هذه الإمكانية، وخاصةً منذ أوائل القرن الواحد والعشرين، تحولت بعض العملات المحلية إلى عملات إقليمية مثل اليورو والروبل واليوان طاردةً الدولار من مساحاتها إلى حد كبير، مما كشف هذا الفائض. وكانت توقعات الخبراء الأمريكيين أن هذه الفقاعة المالية ستنفجر في آذار 2008، ولكنها انفجرت في أيلول 2008. والجدير بالذكر بالإضافة إلى كل ذلك أن الظروف قد ساعدت الدولار مع سقوط الاتحاد السوفييتي، حيث توفرت له مساحات واسعة من النهب، إذ جرى نهب تريليونات من الدولارات من الثروات المادية، وجرى تسليع جزء من الكتلة النقدية الفائضة. لكن نهب الاتحاد السوفييتي لم يحل المشكلة سوى إلى عام 1995، حيث تم قلب نظام البورصة جذرياً، فقد كان 90% من مبادلات نظام البورصة حتى 1995 هو مبادلات حقيقية و10% فقط مضاربات، فتحول منذ 1995 إلى 10% مبادلات حقيقية مقابل 90% مضاربات. أي لعبت البورصة دور نظام تدوير للعملة يمكن من خلالها إخفاء الحجم الحقيقي لتداول الدولار الوهمي في النظام المالي العالمي والذي يقدر بـ450 تريليون دولار يدور في البورصة العالمية سنوياً، أي بحدود تريليون ونصف إلى تريليوني دولار يومياً. بعد ذلك ومنذ عام 200 شعر صناع السياسة الأمريكية بأن المسألة باتت أكبر مما يمكن التحكم به، وبما أنه لا يمكن إيقاف آلات الطباعة عن طباعة الدولار وبما أن نهب الاتحاد السوفييتي وتسخير البورصة كوسيلة للتضليل المالي لم يكفيا لكبح الأزمة، وجدوا أن الحل يتجسد بالحرب والسيطرة على موارد الطاقة. وكانت الخطة الاستراتيجية الأمريكية حتى 2008 هي السيطرة على موارد الطاقة في منطقتنا (70% من الاحتياطات العالمية)، وهذه السيطرة هنا تأتي بمعنى الامتلاك وليس بمعنى الشراكة.
وهنا لابد من طرح السؤال التالي: ماذا يعني انتهاء الدولار كعملة عالمية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية؟! إذا كان حجم الناتج الإجمالي المحلي 13 تريليون دولار، و18 % منه إنتاج حقيقي، فإن ذلك يعني بالملموس أن انتهاء الدولار كعملة عالمية سيؤدي إلى خفض الناتج الإجمالي المحلي الأمريكي إلى 3 تريليون دولار أو أقل من ذلك. وإذا أصبح حجم الناتج المحلي الأمريكي 3 تريليون فما الذي سيحدث في الوضع الداخلي الأمريكي؟! وما الذي سيصيب الدور الأمريكي على الصعيد العالمي؟! وكيف ستقوم أمريكا بتلبية احتياجات قواعدها العسكرية المنتشرة حول العالم؟! وما الذي سيصيب الدور الاقتصادي السياسي الأمريكي؟! كلها أسئلة غاية في الجدية، فهل ستقبل الولايات المتحدة طواعيةً- كما يطلب ساركوزي وميركل ومن لف لفهم- بالتخلي عن دورها العالمي وعن الدولار كعملة تبادل عالمية وحيدة؟! هذا يعني أن الحديث هنا يجري حول خسارة 10 آلاف مليار دولار سنوياً أو عدم خسارتها.
3ـ الدلالة الاقتصادية- السياسية للأسباب الأساسية
نعلم، وعلى أساس الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، أن هنالك قانونين أساسيين قد فعلا فعلهما في تطور الرأسمالية تاريخياً وهما:
1 ـ سعي رأس المال نحو الربح الأعلى.
2 ـ ميل معدل الربح نحو الانخفاض بسبب تعقد التركيب العضوي لرأس المال.
وإذا كان القانون الأول مفهوماً، فإن القانون الثاني كان السبب الرئيسي تاريخياً في انتقال الرساميل من المناطق التي استوطن بها إلى مناطق أخرى سعياً وراء الربح الأعلى، بسبب انخفاض معدل الربح في المناطق القديمة التي جرى (استصلاحها)، وهذا يفسر كل الانزياحات التاريخية في حركة الرساميل من الغرب إلى الشرق. وهذا الأمر كان يجري بهذا الشكل لأنه إذا افترضنا أن هذين القانونين كانا يعملان ضمن منظومة مغلقة في بلد واحد مثلاً، فإن نتيجة فعلهما المتناقض تعني في نهاية المطاف:
1 ـ الازدياد المضطرد لتمركز الثروة بأيدي قليلة.
2 ـ انخفاض حصة الأكثرية من الناتج المحلي الإجمالي، أي ازدياد الإفقار.
3 ـ انخفاض الطلب العام نتيجة لذلك، وظهور فائض إنتاج وانهيار المنظومة.
ولكن بما أن فعل هذين القانونين لا يجري ضمن منظومة مغلقة في بلد واحد، فإنه في كل مرة كانت تصل فيه الأمور إلى حد الأزمة ببنودها الثلاث المذكورة آنفاً كان يجري الحل عبر توسيع المنظومة على حساب مساحات جديدة، مما كان يؤدي إلى تخفيف حدة التناقض في بلدان المركز بين تمركز الثروة وازدياد الإفقار، على حساب غزو وإفقار مناطق جديدة. واستمرت هذه العملية خلال القرن العشرين كله، إلى درجة أنه باستنفاذ إمكانية الانتشار اللاحق بعد تحول العالم كله إلى منظومة رأسمالية واحدة أصبح هذان القانونان يعملان بفعلهما المتناقض ضمن منظومة واحدة مغلقة اسمها الكرة الأرضية. هذا هو التفسير العميق للأزمة الاقتصادية الحالية التي رأينا بداياتهها بالتجليات المالية والتي اعتبر البعض أنها هي الأزمة، بينما هي كانت تجليات هذه الأزمة الظاهرية على السطح لا أكثر ولا غير.
4 ـ الأسباب المباشرة (الثانوية) للأزمة
لقد قدم لنا الإعلام أن أهم هذه الأسباب كان أزمة الرهن العقاري، ومن حيث المبدأ يقدر حجم كل العقارات في أمريكا منذ نشوئها وحتى اللحظة بـ 50 تريليون دولار، وقد قام ألان غرينسبان (مدير المركز الاحتياطي الفدرالي آنذاك) بفتح الباب أمام البنوك لإعطاء القروض بتسهيلات كبيرة ودون ضمانات، وكانت القروض بحجم 150 تريليون دولار، لكن لماذا؟ هل كان ذلك مصادفة؟ أم أن غريسبان، مدير المصرف الاحتياطي الفدرالي السابق، كان يعلم بكمية النقود المطبوعة، ويعلم أن الكتلة الدولارية الفائضة معرضة للانكشاف ما لم يتم ضخها في السوق الداخلية الأمريكية ريثما تتم تغطيتها لاحقاً من موارد النفط الذي سيتم الاستيلاء عليه عسكرياً؟!
لقد اضطر غرينسبان أمام لجنة التحقيق في الكونغرس أن يقول «كان هناك خطأ في المنظومة». لكن الأمر ليس خطأً في المنظومة، بل هو لعبة مقصودة لم تأتي حساباتها كما كان متوقعاً ومطلوباً.
إذاً، أزمة الرهن العقاري مع عدم قدرة الاقتصاد الأمريكي على حماية الدولار بسبب انخفاض وزنه النوعي العالمي إلى ما تحت 20%، هما أمران ساهما بتحفيز انفجار الأزمة لكنهما ليسا سبب الانفجار. ويضاف إلى الأسباب الثانوية كلفة حرب العراق، فحسب جوزيف ستيغلس إن كلفة حرب العراق حتى الآن هي 3 تريليون دولار أضيفت إلى الدين العام، وبرأي الخزانة الأمريكية منذ بداية عام 2000 أن الدين العام الأمريكي في آذار من 2008 سيبلغ حجمه 8.4 تريليون دولار، وبرأيها أيضاً أن هذا الحجم لا يمكن تخديمه، وبالتالي ستنفجر الفقاعة التي خلفها تضخم حجم الكتلة الدولارية إلى 600 تريليون حول العالم. أي كان رأي الخزينة أن الأزمة ستنفجر في آذار من 2008 لكنها انفجرت في أيلول 2008 وليس على الرقم المتوقع نفسه بل على رقم 10 تريليون دولار، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم أصبح اليوم 13 تريليون دولار! لأن هذا الضخ للأموال في المصارف والمؤسسات المالية زاد في الدين العام بشكل هائل جداً، فالحكومة الأمريكية تقوم حالياً بطبع أموال وضخها في شرايين هذه المؤسسات، وهذه الأسباب هي أسباب ثانوية ظاهرية وهي تعبير عن الأزمة الأساسية، أي عن وجود كتلة نقدية كبيرة أصبحت الولايات المتحدة غير قادرة على حمايتها بالأصل.
بعد ما كان صندوق النقد الدولي يتوقع معدل نمو 2.2% للعام 2009 مقارنة بنمو قدره 3.3% للعام 2008، أصبحت توقعاته لهذا العام دون 0.5%، وكأن الرسالة التي ما فتئ رئيس الصندوق يكررها منذ انفجار الأزمة في الصيف بـ"أن الطقس الجيد سيأتي بعد المطر"، جعلت هذا المطر يتحول إلى إعصار مزمن بفعل تتالي الأخبار السيئة عن إفلاس العديد من الشركات العالمية بما فيها شركات التقانة. ومما يزيد الطين بلة أن الصندوق يعتقد الآن، وعلى الرغم من الإجراءات الواسعة والكبيرة التي اتخذتها الدول الكبرى، بأن التوتر في الأسواق المالية العالمية يبقى حاداً ويصيب الاقتصاد الحقيقي..
والسؤال الذي سيبقى مطروحاً طوال مدة رئاسة أوباما هو: كيف سيتم خلق 4 مليون فرصة عمل بينما خلال الأشهر الخمس الأخيرة لإدارة الرئيس بوش غير المأسوف عليها فقد الاقتصاد الأمريكي 2.5 مليون فرصة عمل؟
فعلى سبيل المثال يمثل تحسين البنية التحتية رهاناً رئيسياً خاصة إذا ما عرفنا أن ثلث جسور الولايات المتحدة البالغة 570 ألف جسر يحتاج إلى إعادة تأهيل. وضرورة النهوض في هذه البنية ينبع ليس فقط لحاجات تنموية كما كان يروج دعاة انكفاء الدولة بل أيضاً لمساهمتها في تفعيل النمو الاقتصادي وبالتالي درء نزيف البطالة وزيادة فرص التشغيل. لكن تحقيق هذا الرهان سيتطلب سنوات عديدة وليس فقط خطاباً متفائلاً أو أشهراً قليلة من العمل.
والسؤال الذي يطرحه أي مواطن أمريكي بسيط كيف يمكن لدولة يبلغ دخلها القومي ربع الدخل العالمي أن تنفق مئات المليارات من الدولارات في حروب مفتوحة تحت مسميات طنانة ولديها في نفس الوقت أكثر من 40 مليون نسمة لا يملكون أين نوع من التأمين الصحي؟!
وإذا كان نمو العديد من الاقتصادات المتقدمة قد هبط فعلياً دون -1%، فإنه سينخفض معدل نمو اقتصادات الدول حديثة التصنيع والدول الناشئة، والدول النامية والتي هي بأمس الحاجة لمتابعة النمو الاقتصادي خاصة بعد معاناة العديد منها من أزمة الطاقة وأزمة الغذاء، حيث بدأت المنعكسات الاجتماعية بالظهور والدوران في حلقة شبه مفرغة والتي لن يكون بمنأى عنها أي بلد، لا بل قد تتحول الأزمة الاقتصادية في العديد من الدول إلى أزمات اجتماعية عديدة طوال هذا العام والعام القادم وحتى ولو تم تجاوز جانبها الاقتصادي. وفي كافة الدول سينجم عن الركود وإفلاس الشركات وتسريحها للعمالة (خاصة الماهرة منها) آثار اجتماعية عديدة نتيجة ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مخصصات التأمينات الاجتماعية نتيجة انخفاض مستوى التشغيل والأجور والإنفاق على الرعاية الصحية والاجتماعية نتيجة انخفاض مخصصات الموازنات الحكومية وموارد المنظمات الأهلية، وزيادة الحاجة إلى احتضان المزيد من الطبقات المهمشة والمتزايد عددها نتيجة تأكل مدخرات ودخول الطبقات المتوسطة.
كما أن الدول النامية التي لم تتأثر إلى حد كبير بالموجة الأولى من الأزمة في الأشهر المنصرمة، ستعاني الآن أكثر من غيرها خاصة من الناحية الاقتصادية- الاجتماعية وذلك نتيجة عوامل عديدة تضاف إلى العوامل التي تؤدي حاليا إلى الركود في الدول المتقدمة وهذه العوامل الإضافية تتمثل في انخفاض أسعار النفط الذي سيؤدي إلى تخفيض مساعدات الدول المصدرة إلى الدول النامية، وانخفاض المساعدة الدولية تجاه الدول الأكثر فقرا، ولجوء الكثير من الدول النامية إلى تقليص مخصصات التعليم والصحة، وانخفاض تحويلات العمالة والمقيمين في الخارج.. إلخ.
أحد الأسئلة الهامة الذي يطرح اليوم هو: لماذا تنهار اقتصادات دول العالم وعملاتها الأساسية بسرعة أكبر من انهيار الاقتصاد الأمريكي ودولاره مع أن الأزمة قد انفجرت في بادئ الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية؟ يؤدي هذا الأمر إلى تخبط يصل إلى درجة أن البعض يستنتج أن الاقتصاد الأمريكي مرشح للتعافي بسرعة أكبر من الاقتصادات الأخرى، وهذا الاستنتاج يرجع إلى أن سرعة الانهيار والتراجع خارج الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أسرع من سرعة الانهيار في السوق الأمريكية نفسها، ونظرة سريعة إلى أرقام القيم السوقية للأسواق العالمية في بداية ونهاية 2008 تؤكد ذلك. ولكن السبب الحقيقي هو أن السوق الأمريكية مجهزة بأدواتها المالية المهيمنة كي تخفف انهيارها على حساب الأسواق الأخرى عبر آلية الأواني المستطرقة، وبوصول اقتصادات دول العالم إلى الحدود القصوى من الانهيار فإن تسارع الأزمة الأمريكية سيتسارع إلى حد يمكن معه تبرير تلك التوقعات التي تتزايد حول احتمال تفكك الولايات المتحدة الأمريكية إلى ست دول مستقلة خلال الأعوام القليلة القادمة.
5 ـ إلى أين تتجه الأزمة؟
لكي نتمكن من الإجابة على هذا السؤال، يجب علينا أن ندرس الأزمات السابقة، ولدينا في القرن العشرين أزمتان؛ الأزمة التي سببت الحرب العالمية الأولى، والأزمة التي سببت الحرب العالمية الثانية، وإذا درسنا مراحل تطور الأزمتين الأولى والثانية نجد أن المشترك بينهما هي الأمور التالية:
استمرت المرحلة الأولى لهما من سنة إلى سنتين وشهد فيها الاقتصاد إرهاصات الأزمة، أي ارتفاع درجة حرارة الاقتصاد وارتفاع ضغطه إلى جانب مظاهر أخرى مختلفة مثل ارتفاع البطالة وانتحار رجال الأعمال الأمريكيين قفزاً عن ناطحات السحاب، وبدأت الاضطرابات الاجتماعية التي استمرت ثلاث سنوات قبل بداية المرحلة الثانية وإصابة الاقتصاد الأمريكي في 1932 باحتشاء في أوعيته وشرايينه بكل معنى الكلمة، بعد ذلك خرجت الولايات المتحدة إلى الحرب التي كانت تعبيراً عن بدء المرحلة الثالثة من الأزمة والتي كانت بمثابة جهاز إنعاش أخرج الاقتصاد الأمريكي من احتشائه، وبنهاية الحرب- التي تمثل التعبير الأقصى عن التناقضات في هذه المنظومة- ظهر أن المنظومة باتت ضعيفة وتحتاج إلى بدائل وحينها بدأت المرحلة الرابعة. ولذلك ليس مصادفة أن تكون الأزمة الأولى والحرب العالمية الأولى أنتجتا الاتحاد السوفييتي، وليس مصادفة أن الأزمة الثانية والحرب العالمية الثانية أنتجتا منظومة الدول الاشتراكية، أي أن الأزمات أنتجت نقيضاً للنظام القائم، ونحن اليوم نعيش الأزمة الثالثة من حيث التسلسل العددي، ولا بد هنا من لفت النظر إلى قضية بسيطة وهي أن الأزمة الأولى أخرجت سدس البشرية من النظام الرأسمالي العالمي، والأزمة الثانية أخرجت ثلث البشرية (سدسيها) من هذا النظام، فما هي العلاقة بين الأزمتين الأولى والثانية بالتسارع؟ إنها الضعف في ظرف 30 عاماً! نحن اليوم في الأزمة الثالثة، وهناك قانون يفعل فعله في هذا الاتجاه!
كانت الرأسمالية في الأزمات السابقة تستطيع الخروج من الأزمة وقد خرجت مرتين، لكن يجب ألاّ ننسى أن ثمن الخروج من الأزمة الأولى كان 15 مليون إنسان، وأن ثمن الخروج من الثانية كان 55 مليون إنسان، والآن حين يسأل البعض عن وجود إمكانية للخروج من الأزمة الثالثة، فإن الجواب هو نعم، يمكن الخروج، ولكن ما هو الثمن لذلك، كم مئة مليون سيكونون ثمن الخروج من الأزمة الثالثة؟!.
يمكننا الاتفاق الآن على أنه لا يوجد مخرج اقتصادي بالمعنى البحت من هذه الأزمة، والمخرج الموجود هو سياسي عسكري، وهنا لا ننفي عن الرأسمالية قدرتها على تجديد وإصلاح نفسها، ولكن كيف، وعلى حساب ماذا؟! وهل ستسمح البشرية لنفسها بأن تتحمل أثماناً جديدة تطلبها الرأسمالية للخروج من أزمتها؟!
لقد رأينا المشترك بين الأزمات، لكن بماذا تختلف هذه الأزمة عن سابقاتها؟ كانت الحرب سابقاً تتم في حدود الرأسمالية التي كانت سائدةً في قارة أو قارتين، لذلك كانت الحرب تجري في مكان واحد أو مكانين، فالحرب العالمية الثانية عملياً لم تخرج من الحدود الأوروبية ولامست أطراف شمال إفريقيا وبعض أجزاء آسيا، لكنها كانت محدودة بالمعنى الجغرافي ويقال عنها عالميةً، لأن قوى كبرى عالمية شاركت فيها، لكنها لم تكن عالمية بمعنى أن كل القارات شاركت فيها، وهذا ينطبق على الحرب العالمية الأولى. لكن ما هي حدود الحرب الجديدة التي تستطيع إخراج الرأسمالية من أزمتها؟!
استطاعت الدول الرأسمالية في الحرب الأولى التخلص من الأزمة عبر إعادة توزيع المستعمرات فيما بينها، وفي الحرب الثانية توازعت الدول الرأسمالية الأسواق مغيرة الشكل الظاهري للهيمنة من الاحتلال المباشر إلى السيطرة الاقتصادي، وفي القرن العشرين صنّعت آلية هامة هي نظام البورصات وهي شكل من أشكال الاحتلال لأنها آلية شفط للثروات. لكن أين ستتوسع الدول الرأسمالية الآن؟ أين ستذهب الحرب؟ هناك فكرة هامة بهذا الخصوص: كان المخرج دائماً بعد كل حرب هو التوسع بالمعنى الجغرافي ليس فقط للدولار بل للاقتصاد الرأسمالي ككل، كان هذا التوسع قادراً على حل الأزمة، بغض النظر عن أعداد ونسب الضحايا، كان توسع النظام ينقذ النظام من أزمته السابقة، أما اليوم فقد انتهى التوسع إذ ليس هناك بقعة على الكرة الأرضية، اللهم باستثناء كوريا الشمالية وكوبا، لا يوجد فيها رأسمالية، لذلك فإن الأزمة الحالية تختلف عن الأزمات السابقة لأنها واسعة النطاق، ناهيك عن أن حروب الأزمات الماضية كانت تجري بأسلحة تقليدية وبين الكبار وحدهم، فهل من الممكن اليوم أن تجري حروب للكبار لكن بأسلحة ذرية؟ هذا الأمر غير مرجح بل المرجح والذي يتم الحديث عنه الآن هو أن الحروب الجديدة بين الكبار ستجري على أراضي الغير وعلى مساحات واسعة من أجل السيطرة على الموارد وتخفيف عدد البشر.
6 ـ الآفاق.. و"المالتوسية" الجديدة
حدود الأزمة عرفناها، فهل المخارج السابقة ممكنة؟ نختلف مع بعض الاقتصاديين الذين ينظرون إلى الموضوع من جانبه الاقتصادي البحت، ولا يرون جانبه السياسي. النظام الرأسمالي اليوم أمام معضلة عميقة وعويصة. والأرجح أننا سنكون خلال السنوات العشر القادمة أمام عملية اسمها انهيار النظام الرأسمالي العالمي.. يقولون إن العولمة قد اجتاحت العالم، وهذا يعني حكماً أن الأزمة معولمة، وإذا حدث انهيار فإنه سيكون انهياراً معولماً.. أي ستنهار المنظومة بأكملها.
إن الاحتياطين الكبيرين اللذين أنقذا الرأسمالية بالقرن العشرين استُنفذا اليوم، وهما العالم الثالث والبيئة، فمن أين سيخترعون الاحتياط الثالث؟ ليس هناك مخرج للأزمة الرأسمالية الحالية.. يجب أن تؤخذ هذه الفرضية بعين الاعتبار، وهي فرضية انهيار المنظومة الرأسمالية بشكلها الحالي نهائياً، وليس فقط تغير مراكز القوى ضمن هذه المنظومة نفسها كما يتوقع البعض. أما البديل فالبشرية ستنجزه حين يأتي أوانه، فهي التي ستجد نظامها التحرري الإنساني العادل الذي يؤمن التوازن في المجتمع وبين المجتمع والطبيعة، وكل الإرهاصات التي نراها اليوم في أمريكا اللاتينية والشرق يمكن أن تشكل الملامح الأولية لهذا البديل: مقاومات صغيرة بأسلحة بسيطة تقاوم آلات عسكرية كبيرة. الأمر فيه منطق تاريخي: آلة كبيرة تسير ضد التيار التاريخي، وآلة صغيرة تسير مع التيار، ما قوة العطالة للآلتين؟ النتيجة: ما يزالان يتعادلان إلى الآن: الآلة الكبيرة لا تستطيع دحر وهزيمة الآلة الصغيرة التي يدفعها التيار التاريخي الموضوعي وتستطيع أن تصمد في وجه الآلة الكبيرة.. القضية متعلقة بإرادة بشر ومصالح أناس بسطاء قادرين على أن يعبروا عنها بلحظة معينة، وبالمقابل فإن أصحاب الآلة العسكرية الكبيرة غير قادرين على حساب قدرة فعل مجموع البشر ومصالحهم، وهذا العامل أفشل مخططاتهم حتى الآن، وهذا الأمر ليس له سابقة في القرن العشرين بهذا الشكل الفاقع.. لذلك يتبيّن أن برنامج أصحاب الآلة الكبيرة فيه خطأ بالتصميم، وهذا الخطأ سيدفعون ثمنه غالياً.
ما هو المخرج الذي يريدونه؟ الحقيقة أنه ليس هناك أي مخرج.. إنهم يراهنون على النظرية المالتوسية التي تحدثت عن أن البشر يتزايدون بسلسلة هندسية بينما الموارد تتزايد بسلسلة حسابية، وتأتي الزلازل والأمراض والحروب لتعديل الكفة بينهما.. اليوم، تجاوز هؤلاء مالتوس، وباتوا يريدون التحكم بالأمراض والحروب وغيرها من أجل أن يحافظوا على نمط توزيع الثروة: ثلاثة مليارات يبقون و3 مليارات فائضون، لذا يجب التخلص منهم..
نظرية المليار الذهبي هي نظرية معروفة، مليار يحكم ويملك، وملياران يخدمونه، والباقي إلى زوال.
هكذا يريدون الحل.. لكن هل هو حل واقعي؟ إنهم يتخبطون ولا حلول لديهم.. وهنا لا بد من طرح السؤال الأهم: هل يمكن هزيمة المخطط الأمريكي؟ نعم إن ذلك ممكن، وكل الشروط متوفرة، ولكن المهم هو أن تتوفر الإرادة الكافية لتحقيق هذا الهدف الكبير
7 ـ سورية والأزمة
بالنسبة لانعكاس الأزمة على الاقتصاد السوري، من المفيد أننا تأخرنا بالاندماج بالاقتصاد العالمي بالشكل الذي هو عليه، ولم نأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة بكامل حجمها وبناء الأسواق المالية التي أفادنا عدم قيامها في وقت مبكر، إذ تجنبنا بذلك عملية الشفط التي قامت بها الأسواق الرئيسية باتجاه الأسواق الثانوية وحافظنا على جزء من ثرواتنا بهذه الطريقة.
يقال إن انعكاس الأزمة على اقتصادنا لم يكن كبيراً، وهذا صحيح، ولكن من الآن فصاعداً لن يكون هذا صحيحاً، لأن الأزمة في العالم تنتقل لمرحلة جديدة وهي المرحلة الاقتصادية، فما هي تداعيات هذه المرحلة الثانية (الاقتصادية) على الاقتصاد السوري، والتي ما زالت في بداياتها؟
1 ـ يجب أن يجري تقدير صحيح لعمر المرحلة الثانية زمنياً في الاقتصاد العالمي، فالتقديرات من أكثرها تشاؤماً إلى أكثرها تفاؤلاً تتحدث عن استمرار الأزمة إلى 2011 كحد أدنى و2015 كحد أعلى. فهل يجوز أن نتعامل معها سنةً بسنة؟ أم يجب تكوين منظور زمني تقريبي لعدة سنوات يتم فيه التعامل مع الأزمة على هذا الأساس؟ إن تصريحات المسؤولين الاقتصاديين الأكثر بعداً زمنياً لم تتحدث إلا عن 2009، بينما يوجد من يعتقد بأن الأسوأ في الأزمة قد أصبح وراءنا! وإذا تسارعت الأزمة وتعمقت أكثر بعد 2009 كيف ستتم المعالجة ومواجهة التداعيات؟ إن عدم وجود منظور زمني قريب من الحقيقة يعيق جدياً التعامل مع الأزمة.
2 ـ تثبت الأحداث أن الأزمة تسير بشكل متسارع يوماً بعد يوم، فحجم الدين العام الأمريكي ازداد خلال الأشهر الستة الأخيرة 30% عن الحجم الذي تكون خلال 60 عاماً، أي بكلمة أخرى إذا كان ازدياد حجم الدين العام وسطياً في السنة الواحدة منذ عام 1944 حتى 2008 هو بحدود 150 مليار دولار، فإنه قد ازداد خلال الأشهر الستة الأخيرة شهرياً بحدود 500 مليار دولار، أي أن التسارع قد ازداد 40 مرة اليوم عما كان عليه وسطياً خلال العقود الستة الماضية، وإذا لم نأخذ هذا التسارع بعين الاعتبار فإن تخطيط مواجهة التداعيات سيكون قاصراً جداً.
3 ـ ستبرز أهم تداعيات الأزمة بالنسبة لسورية كبلد من بلدان العالم الثالث بارتفاع أسعار المستوردات نتيجة انخفاض القيمة الفعلية للعملات العالمية أو حتى فقدان إمكانية تأمين هذه المستوردات من حيث المبدأ بسبب الاحتشاء الذي سيصيب الاقتصاد العالمي. وبما أن مدخلات اقتصادنا من الخارج هامة جداً، فإن ذلك سيؤثر بشكل حاد على الإنتاج والاستهلاك.
4 ـ الميل العام الواضح في ظل الأزمة هو الاتجاه نحو انخفاض أسعار المواد الخام عالمياً، وبما أننا دولة عالم ثالثية تعتمد في تصديرها على المواد الخام أكثر منه على المواد المصنعة، فإن ذلك سيعني هبوطاً حاداً في موارد الاقتصاد الوطني وموارد خزينة الدولة، مع كل ما يترتب على ذلك من أعباء على النمو والفقر والبطالة التي لم يعد من الممكن الحديث عن تحقيق أرقام الخطة الخمسية العاشرة بخصوصها.
5 ـ والأخطر أنه لدى سورية احتياطي عملات صعبة هام تكون في فترات نموها الاقتصادي السابق من عرق وجهد الشعب السوري وكان هذا الاحتياطي أحد الضمانات الهامة للأمن الوطني، والسؤال الكبير هو: في حال حدوث انهيار مالي عالمي كامل، كيف ستكون القيمة الحقيقية لهذا الاحتياطي الذي فعلنا حسناً بتنويع العملات المكونة له، ولكن المشكلة اليوم أن ليس الدولار وحده عرضةً للانهيار وإنما كل العملات العالمية أيضاً.
6 ـ لذلك ترتدي أهمية كبرى في ظل تداعيات الأزمة المحتملة قضية تأمين الأمن الغذائي بسورية وهذا الأمن لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على الخارج كما بينت التجربة التاريخية، بل يتطلب توجيه الموارد باتجاهه وتغيير جميع السياسات جذرياً لمصلحته، أي المطلوب هو خطة طوارئ إسعافية في هذا المنحى.
7 ـ هذا كله سيؤدي إلى ازدياد عجز الميزان التجاري وليس العكس، لأن الواردات ستزداد قيمتها والصادرات ستقل قيمتها، مما سيشكل عاملاً ضاغطاً كبيراً على الليرة السورية تجاه العملات الأخرى.
8 ـ وفي ظل انخفاض نسب النمو الاقتصادي المتوقع بشكل عام، وخاصةً في قطاعات الإنتاج الحقيقي، ولاسيما أن النمو في الزراعة والصناعة كان سالباً في السنوات الأخيرة، فإن اللوحة ستبدو قاتمةً ما لم يجرِ تدارك هذا الأمر فوراً.
9 ـ وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن وضع ميزان المدفوعات سيزداد صعوبةً بسبب الانخفاض المتوقع لتحويل العاملين في الخارج، وتحويلات المغتربين بسبب الركود في بلدان إقامتهم وفقدان مدخراتهم، فإن الوضع سيصبح أكثر تعقيداً.
10 ـ وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن المساعدات والاستثمارات العربية ستنحسر بشكل حاد بسبب ما تعانيه بلدان هذه الاستثمارات من مشاكل جدية بسبب الأزمة العالمية، فإن الوضع يصبح بلا مخرج إذا ما استمرت السياسات الاقتصادية الحالية.
إن كل ذلك سيؤدي خلال فترة زمنية قصيرة إلى تراجع الناتج الإجمالي المحلي بشكل حاد وزيادة معدلات البطالة وانخفاض جدي في مستوى المعيشة، لذلك من المطلوب وبشكل جدي وضع خطة إسعافية إنقاذية لتخفيف الأضرار المتوقعة على الاقتصاد السوري وهذا الأمر لا يمكن أن يتم دون:
1 ـ زيادة التدخل الفعال للدولة، المباشر منه وغير المباشر، في قطاعات الإنتاج المادي وخاصةً الزراعة والصناعة، عبر تشجيع الاستثمار الداخلي وصياغة سياسات تحفيزية في هذا الاتجاه تستخدم الأدوات المالية والضريبية والسعرية بشكل ذكي يؤمّن حشد كل إمكانيات الاقتصاد السوري بقطاعيه العام والخاص، الأمر الذي يتطلب: - إعادة النظر في أولويات الاستراتيجية الاقتصادية – إعادة النظر في نموذج التطور الاقتصادي القائم والذي بني في جزء هام منه فعلياً على شاكلة الاقتصادات التي تعاني من الانهيار اليوم.
2 ـ الإقلاع وعلى الأقل لفترة زمنية منظورة عن تشجيع الاستثمار في القطاعات الخدمية والمالية، واستخدام الأدوات المالية والضريبية والقانونية لتنفيذ هذا الاتجاه.
3 ـ تعبئة الموارد الداخلية وخاصةً الفاقد الاقتصادي الذي يهدر بسبب الفساد، والذي يمكن أن يصبح أحد الموارد الهامة لمواجهة الأزمة.
4 ـ إعادة النظر برفع الدعم عن المحروقات وإعادة توزيعه باتجاه يضمن حسن سير الفروع المرتبطة بالأمن الغذائي مباشرةً، على أن يترافق ذلك بعدم استبعاد إمكانية العودة النشيطة لدعم أهم المواد الغذائية التي يستخدمها المواطن صاحب الدخل المحدود.
5 ـ الإقلاع نهائياً عن تمويل الموازنة الجارية بالعجز، وإذا حدث ذلك في الموازنة الاستثمارية فبالحدود المعقولة علمياً في المشاريع الاستراتيجية والمفتاحية التي يجب أن تقوم بها الدولة في مجال الإنتاج المادي المباشر.
6 ـ إعادة النظر بالاتفاقات والشراكات الدولية التي لا تخدم برنامج مواجهة الأزمة.
إن العالم كله يتوقف ويفكر ملياً بأسباب الأزمة الحالية وتداعياتها والسياسات التي أوصلت إليها، ويعيد النظر بكل النماذج الاقتصادية التي أوصلت الوضع العالمي إلى ما وصل إليه، لقد رسمت الخطة الاقتصادية لدينا في ظروف اقتصادية مختلفة عن الحالية الأمر الذي يتطلب إعادة النظر فيها جذرياً وتكييفها مع الواقع الجديد الذي اختلف جذرياً مع الواقع السابق، فالنصائح التي كانت تسدى بضرورة الاتجاه نحو اقتصاد السوق الحر وتكييف اقتصادنا مع متطلبات السوق الدولية قد انهارت مع الانهيار الحاصل.
اليوم فعلاً مطلوب التكيف مع الواقع الجديد، لأن الاستمرار دون تبصر في الاتجاه الحالي يطرح سؤالاً مشروعاً: إلى أين نحن متجهون عملياً؟ إن مصلحة الأمن الوطني بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي تتطلب إحداث انعطاف جدي باتجاه سياسات تؤمن الشروط الاقتصادية لحماية مواقف سورية الوطنية. يجب أن نتوقع كل السيناريوهات الممكنة وأن نعمل على تجنب أسوئها.