(المركزي): من شار لليرة إلى بائعٍ لها!..
صدر القرار رقم 1388/ ل.أ/ عن مصرف سورية المركزي، يتضمن تعليمات وإجراءات وآليات، شراء القطع الأجنبي من السوق، أي أن مصرف سورية المركزي يريد أن يشتري الدولار بعد أن كان يبيعه طوال سنوات الأزمة، فهل هذا يعني أن الليرة ستفقد واحداً من أهم الراغبين بها وطالبيها، وما أثر هذا على (قيمتها) التي أصبحت تتحدد بسعر صرف الدولار مقابل الليرة!
قاسيون تبحث في الدوافع تجاه هذا النوع من الإجراءات والنتائج التي من الممكن أن تصدر عنه في هذه الفترة الحساسة من الظرف الاقتصادي السوري، وبالتالي من الشروط المحيطة والمؤثرة بقيمة الليرة السورية ومصيرها..
العرض والطلب يتقاذفان الليرة
تتحول عمليات الطلب والعرض على الليرة والدولار، إلى عنصر محدد في سعر صرف الدولار مقابل الليرة في الظرف الحالي. ويعود هذا إلى أن العناصر الأساسية المحددة لقيمة الليرة، وبالتالي لسعر الصرف، لا تشهد تغيرات كبيرة. فأولاً: الناتج المحلي الإجمالي السوري، لا يتدهور أو يتحسن بتسارع كبير في عام 2016 كما في سنوات الأزمة السابقة. وثانياً: الكتلة النقدية بالليرة السورية التي يضخها المصرف المركزي لا تتوسع بالمقدار السابق ذاته، حيث أن سياسات التقشف الحكومية، وتقليص الميزانية، وتقليص الإنفاق الاستثماري واختصاره، والدفع عن طريق الخطوط الائتمانية مؤجلة الدفع حالياً، جميعها تؤدي إلى عدم وجود أسباب كافية للقيام بعملية طباعة مستمرة لليرة السورية دون تغطية.
وطالما أن العناصر الحاسمة، لا تشهد تغيرات كبيرة، فإن العوامل الفرعية هي التي تفعل فعلها في تغير سعر صرف الدولار، وارتفاعه المتسارع بحدة في عام 2016، حيث يستمر ارتفاع الطلب على الدولار، لأغراض الاستيراد والمضاربة والادخار، ويتراجع الطلب على الليرة نتيجة لتراجع الإنفاق الحكومي، وتراجع الاستثمار الإنتاجي المحلي بالليرة، وتراجع قدرات استهلاك السوريين، والأمرين كليهما ناتج عن سياسات رفع المستوى العام للأسعار والمرتبطة بعقلنة الدعم، وبرفع سعر عناصر الطاقة والمازوت والكهرباء تحديداً.
(المركزي) لاعب في السوق لا أكثر!
إن السياسة النقدية خلال الأزمة، وفي انسجامها مع السياسة الاقتصادية الليبرالية، لم تذهب إلى معالجة العوامل الرئيسية في سياستها المعلنة (لحماية الليرة)، بل ذهبت إلى لعب دور ضيق ومحدد كقوة من قوى السوق، تتدخل في العرض والطلب على الدولار والليرة فقط!.
وكانت النتيجة أن تمّ استخدام جزء هام من احتياطي القطع الأجنبي، وتختلف الأرقام على تقدير ما تبقى منه، ولكن هذه السياسة أنفقت خلال عام 2015 فقط مبلغ 1,2 مليار دولار على البيع المباشر للقطع الأجنبي لمؤسسات الوساطة المالية، الصرافة والمصارف.
وهي السياسة التي يسميها البعض (سياسة دعم سعر الصرف) أي يعتبر البعض أن المصرف المركزي كان يدعم قيمة الليرة، عندما كان يبيع الدولار، ويشتري الليرة، كلما قامت السوق برفع سعر الدولار، نتيجة زيادة الطلب عليه..
الدعوات لتغيير هذه السياسة، كانت كثيرة خلال الفترة الماضية، على اعتبار أنه من الضروري إيقاف هدر احتياطي القطع الأجنبي، وبيعه للسوق. وإحدى الطروحات كانت تقول: القيام بالعملية العكسية، أي شراء المصرف المركزي للدولار، وهو ما سيتم وفق القرار المذكور، فما الفائدة المرجوة من هذه السياسة؟!
رفع مباشر لسعر الصرف
يقول البعض بأن هذه العملية، ستؤدي إلى تجميع الدولار الموجود في السوق، وتحسين وضع حسابات القطع الأجنبي السورية في المصرف المركزي، بما يؤدي إلى تخليص السوق، من فائض دولاري يستخدم للمضاربة، أو بما يؤدي إلى زيادة تحكم السلطات النقدية بكتلة الدولار الموجودة في السوق.
وللوصول إلى هذه الأهداف، يفترض أن تقدم السلطات النقدية، عرضاً مغرياً للسوق، ولمكاتب وشركات الصرافة وهي المعنية بعملية البيع بشكل أساسي، وفق تسريبات القرار. أي يفترض أن تقدم الحكومة سعر صرف مرتفع للدولار، لكي تقوم السوق ببيع الدولارات الموجودة لديها للمركزي، وتحديداً أن الدعوات للبيع ليست إلزامية، كما في بعض دعوات الشراء، في الأوقات السابقة!
مواد القرار المقدمة في النصوص الإعلامية التي تحدثت عن القرار غير المنشور، تقول: أن سعر البيع سيكون وفق نشرات أسعار الصرف الرسمية الخاصة بمؤسسات الصرافة، في وقت تقديم الطلبات للبيع. وإذا ما كان هذا السعر يقارب السعر الرسمي، أو حتى سعر السوق، فلن يكون هناك حافز جدي لقيام شركات ومؤسسات الصرافة ببيع الدولار للمصرف المركزي!
لذلك فإن مصرف سورية المركزي عليه أن يقدم سعراً مغرياً، ينافس به السوق السوداء، ليقوم من يرغب ببيع الدولار باللجوء لبيعه بالطريقة النظامية، للمصرف المركزي.
أي عملياً لا يمكن أن تتم عمليات البيع، دون وضع سعر مرتفع أعلى من السعر الرسمي، وأعلى من سعر السوق السوداء، وستكون هذه العملية هي عملية رفع مباشرة لسعر الصرف..
إطلاق موجة مضاربة
ولكن هل ستتوقف العملية عند هذا الحد؟ أي يرتفع السعر بنسبة ما، وتقوم الحكومة بالحصول على كتلة دولارية من السوق، تتيح لها مزيداً من التحكم، وينتهي الأمر؟! إن اقتصار الأمر على هذا الحد، يرتبط بامتناع قوى السوق الكبرى، وقوى المضاربة عن الدخول في سباق مع المصرف المركزي على تجميع الدولار، وشرائه..
إن امتناع هؤلاء عن السعي نحو شراء الدولار، بسعر أعلى من سعر المصرف المركزي، هو أمر غير واقعي، فإن مجرد إعلان السلطات النقدية، بأنها راغبة بشراء الدولار، فإن هذا يعني أن فائضاً من الليرة السورية سينزل إلى السوق، إن تحققت عملية البيع. ويعني بأن السلطات النقدية توقفت عن القيام بعمليات بيع الدولار، وشراء الليرة، واتجهت لسياسة معاكسة للمرة الأولى خلال سنوات الأزمة.
سياسة من هذا النوع تعطي الإشارة للسوق، بأن (سياسة دعم الليرة) السابقة، القائمة على بيع الاحتياطي للسوق كلما ازدادت المضاربة، هي سياسة منتهية، لأن السلطات النقدية بدأت بالعمل على المبادرة إلى رفع سعر صرف الدولار، والتخلي عن الليرة مقابل تجميع الدولار. وهذا سيؤدي إلى ذهاب قوى السوق والمضاربين والمدخرين إلى بيع مدخراتهم وأموالهم بالليرة، والمسارعة إلى شراء الدولار، الذي دخلت السوق والحكومة في منافسة على رفع سعره!
إن الأخذ بهذا الاتجاه، أي قيام المصرف المركزي بشراء الدولار من السوق، سيؤدي حكماً إلى ارتفاع سعر صرف الدولار، وإطلاق عملية مضاربة واسعة، ولكن المفارقة ستكون هذه المرة، بأن السلطات النقدية المنوط بها حماية الليرة، هي من بدأت بإشعال فتيل المضاربة ورفع سعر الصرف..
ما الهدف الفعلي للسياسة النقدية؟!
إذا كان هدف السياسة النقدية الفعلي هو حماية الليرة السورية، واستقرار الأسعار، كما تنص الخطة الخمسية الحادية عشرة، فإن سياسة شراء الدولار من السوق لن تؤدي سوى إلى نقل المضاربة على قيمة الليرة إلى مستويات غير مسبوقة، وستبعدها عن قيمتها التوازنية التي يحددها ويحسنها، زيادة الناتج المحلي الإجمالي السوري، أي الانتقال من معدلات النمو السلبية إلى معدلات النمو الإيجابية، وهو الأمر الذي يتطلب حكماً أن تتحول الكتلة النقدية الفائضة من الليرة، أو ما تبقى من احتياطي القطع الأجنبي، إلى استثمار فعلي يخلق النمو ويوسع الناتج، ويحفز الطلب الحقيقي على الليرة السورية، ويثبط العوامل المحفزة للمضاربة ويلغي أسبابها.. أما الاقتصار بالسياسة النقدية التي تحول المصرف المركزي إلى مجرد لاعب في السوق يشتري الدولار ويبيعه، لا يؤدي إلا إلى تسعير المضاربة.. لذلك على السياسة النقدية أن تحدد أهدافها الفعلية، وتعيد تقييم أدواتها، لأنها تتحول إلى مساهم رئيسي في المضاربة على قيمة الليرة ورفع أسهم الدولار..!