تسرب مدرسي أم انعكاس أزمة
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

تسرب مدرسي أم انعكاس أزمة

على الرغم من أهمية التركيز على ردم هوة التسرب من التعليم، وذلك عبر السعي لإعادة استقطاب الأطفال إلى الحاضنة التعليمية عبر المدارس، بمراحلها الأساسية والثانوية، فإنه من الهام التركيز على وسائل وأساليب الدعم النفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى الأنشطة الترفيهية المرافقة للعملية التعليمية، بشكل عام، وذلك لمعرفتنا المسبقة عن هول ما تعرض له الأطفال في سن المدرسة، جراء الحرب الدائرة وتداعياتها.

خلال أزمتنا الراهنة والحرب الدائرة منذ خمسة أعوام، وعقب أعمال العنف التي شهدها الأطفال، وعايشوها وعاينوها، وخاصة من هم بالسن المدرسي، الملتحقين منهم أو المتسربين، خلال هذه الفترة، بالإضافة إلى واقع التشرد والنزوح الذي تعرض له معظمهم، وتأثر الآخرون به، مع التدهور الكبير بمستويات المعيشة، ومفرزاتها من فقر وبطالة وجوع، وغيرها، فقد ظهرت لدى الكثيرين منهم أعراض التوتر الشديد والعدوانية، بالإضافة إلى مظاهر الانعزالية، والهروب المدرسي، مع انتشار عادات سيئة كالتدخين والأركيلة، وحتى الحبوب المخدرة أحياناً، وغيرها من المظاهر والظواهر الأخرى التي لا تقل خطراً، والتي لها تأثير مباشر ليس على بنية شخصيتهم فقط، بل على مجمل مستقبل العملية التعليمية وغاياتها.
ظواهر يرصدها المعلمون
في حديث مع أحد المدرسين قال: إن ظاهرة التدخين قد بدأت بالتسرب إلى تلاميذ المدارس بمرحلة التعليم الأساسي، بعد أن كانت محصورة وضيقة في مرحلة التعليم الثانوي مع كل وسائل الضبط والمراقبة، مستشهداً بطالب بالصف الخامس ضبط وهو يسرق الدخان من زملائه، كما أن من هم أكبر سناً منه يعطونه الدخان بمقابل عدم إخبار ذويهم أو الإدارة.
معلمة في إحدى المدارس قالت: هناك طلاب في الصف التاسع يتباهون بشرب «الأركيلة»، حيث أن أحدهم يدعي بأنه يدخن «راسين» بالنهار، والمشكلة الأكبر حسب قول المعلمة، بأن ذلك يتم بعلم الأهالي أحياناً.
عصابات من الطفولة
ومع مدرس آخر، من مدرسة أخرى، قال: تزايدت حالات العنف المتبادل بين الطلاب والتلاميذ، على شكل مشاجرات، حيث باتت شبه مستمرة، عبر مجموعات صغيرة من الطلاب، تطلق على نفسها مسميات وألقاب متعددة، كعصابات، وأحياناً يتم استخدام القشط والسكاكين في تلك المشاجرات، كما أن هناك الكثير من تداعيات الأزمة وانعكاساتها كمبررات لتزايد تلك الحالات، حيث يعير الطلاب بعضهم البعض، بمفردات الأزمة، كأن يقول أحدهم للآخر «أنت داعشي» اقتراناً ببنطاله الأسود الذي لا يغيره فقراً، أو» أنت نازح إلينا، وهذه مدرستنا وحارتنا»، بالإضافة إلى استخدام عبارات السباب والشتم، التي باتت منتشرة بشكل متزايد، وغيرها الكثير من الأمثلة والمفردات والسلوكيات الشاذة.
«ما بدنا نتعلم»!
وعن دور المدرسين والإدارات، عند رصد هذه الحالات، قال أحد المدرسين: دورنا يقتصر على التوجيه والتنبيه، والزجر الكلامي أحياناً، وأحياناً نضطر لاستدعاء الأولياء من أجل توقيعهم على تعهدات عن أبنائهم، وهذا ما تسمح به القوانين والتعليمات، ولكن رغم ذلك ما زالنا شبه عاجزين عن وضع حدود للكثير من الظواهر الشاذة، والتي تزايدت خلال السنوات الماضية، والمشكلة الأكبر هي مع طلاب المرحلة الثانوية، الذين يتغيبون ويهربون من المدرسة، بالإضافة إلى تدني معدلات ومستويات التعلم لدى بعضهم، حيث وبكل صراحة يقول هؤلاء، «لا تتعبوا علينا، ما ح نتعلم، وليش لنتعلم»؟.
سن المراهقة الأهم استهدافاً بالعملية التعليمية
لعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا أن المرحلة العمرية من 15 – 18 عاماً، أو ما يسمى بسن المراهقة، هي مرحلة الإعداد الرئيسية للفرد، وعبرها يتم تحقيق الأهداف الرئيسية من التعليم وغاياته. بالمقابل فإنها المرحلة الحرجة من حياة الشباب، مع ما يصاحبها من تغيرات في البناء والإدراك والسلوك.
كما لا يغيب عن ذهننا ارتباط هذه المرحلة العمرية بمشكلات المجتمع، حيث غالباً ما تكون المشاكل الفردية المرتبطة بهذا العمر امتداداً لمشكلات البيئة والمجتمع المحيط، كما هي انعكاس للأحداث والأفكار والأزمات التي تحدث به.
على ذلك وبالإسقاط على واقعنا المعاش ،كانعكاس لأزمتنا العميقة التي أصبح عمرها خمسة اعوام، يتبين مقدار وحجم المشكلات التي يعاني منها الطلاب في مرحلة التكون، وتداعياتها، ليس على مستوى التعليم وغاياته، بل على مستوى التطور المجتمعي اللاحق ككل.
التلاميذ ضحايانا المباشرين
يتبين أن كل ما نشهده من مظاهر وظواهر شاذة من الأطفال بسن التعليم، من عنف وتسرب وتدخين وعزلة وغيرها، ما هي إلا انعكاس مباشر لمشكلاتنا العامة، التي تفاقمت خلال الأعوام المنصرمة من عمر أزمتنا، اعتباراً من القتل والتدمير، مروراً بالنزوح والتشرد واللجوء، وليس انتهاءً بواقع الفقر والجوع، بالتوازي مع التراجع المستمر لدور الدولة في مجال الرعاية الاجتماعية، المخطط والمبرمج، وبالتالي فإن الطلبة والتلاميذ هم الضحايا المباشرين لأزماتنا.
دعم نفسي ومجتمعي
إن الحديث عن العملية التعليمية وتطورها وأفقها من أجل تعزيز العقول ودعم المقدرة على الصمود والاستمرار، لا يقل أهمية على العملية التربوية والتوجيهية والسلوكية، بل لعل الأهم بالمرحلة الراهنة هو التركيز على تضميد الجراح الخفية والغائرة في نفوس الطلاب، من أجل حمايتهم من العنف والاساءة والاستغلال، للوصول إلى تعليمهم وسائل وكيفية التعامل مع التجارب والسلوكيات، وخاصة تجاه بعضهم البعض، للانتقال من حالة المشاحنات والشجار والضرب المتبادل، إلى سوية الرفقة والصداقة.
ولعل من أهم الأساليب التي يجب التركيز عليها، بالإضافة إلى أساليب الدعم النفسي والمجتمعي، هي تلك الوسائل والأساليب المرتبطة بالنشاطات، العامة والخاصة، والتركيز على الجانب الترفيهي فيها، مع لحظ أهمية محاولة إشراك ذوي الطلاب بهذه النشاطات، من أجل تلمس الآثار الايجابية للبعد المجتمعي على مستوى النشاطات الفردية والعامة.
تضافر الجهود واجب
ما سبق ذكره كله يعتبر واجباً ملحاً بمرحلتنا الراهنة والمستقبلية، ويجب تضافر الجهود من أجل تحقيقه، من قبل الجهات والمؤسسات المعنية العامة، (التربية- التعليم العالي- الصحة- الثقافة- الإعلام، وغيرها)، مع توفير المستلزمات المادية والبشرية والتقنية من قبل الحكومة، وأهمية استعادة الدولة لدورها بمجال الرعاية الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى الدور المجتمعي الذي يبدأ من الأسرة، ولا ينتهي بدور الثقافة والرياضة والفنون.
مع التأكيد على أولوية وقف عمليات العنف والعنف المضاد كلها، بتنوع وتعدد أشكالها وتلاوينها، والتحييد التام للمدنيين عن دائرة الصراع ومسببيه، بغض النظر عن أية مبررات ومسوغات وغايات، يمكن أن تساق من أية جهة كانت، فالوطن ومستقبله رهن بأيدي أبناءنا، طلبة اليوم.