فقر السوريين.. «عثرة» على طريق النمو! استراتيجية الحكومة الجديدة
رفعت الحكومة أسعار المازوت والبنزين كما توقع السوريون، بعد أن أدركوا أن الحكومة أسقطت من حساباتها العداد الذي يقيس مستوى الأجور والفقر مقابل حجم الحاجات، وحجم الربح الكبير من المضاربة على لقمة العيش حرفياً، وليس مجازاً.
الحكومة تتجاهل هذا المعطى ولا تنطلق منه، بل تعتمد على أن السوريين بدؤوا بالتعامل معه والبحث عن الحلول الوحيدة الممكنة وأغلبها غير شرعية.
في ظل ظرف الحرب العام تبدو سياسة الحكومة الاقتصادية كمن ينتهز –بنجاح- فرصة المشاركة في تدفق الصدمات على الأسر السورية المتعبة. أضيف إليها في هذه الجولة، جلسة التبرير والشرح الحكومية، التي عقدها كل من وزيري الاقتصاد والنفط على شاشة التلفزيون الرسمي بتاريخ 3-10-2014، التي لم تكن موجهة للسوريين عموماً بل للفعاليات الاقتصادية، لشرح جديد الاستراتيجيات الحكومية، تاركة المواطن المتابع مستنتجاً بأنه أياً كانت الاستراتيجية الموعودة، فإنه ليس من ضمن أهدافها بل قد يناله مع الزمن جزء من نتائجها، والأهم لا توجد طريقة حتى الآن لتعويض ما سيخسره مباشرة، ويدفئه ويسمح له بالانتقال..
الحكومة تقول بأن هدف السياسة الحكومية هو استمرار الإنتاج، والصناعة التصديرية بداية، ولكنها تبدأ استراتيجيتها برفع الكلف الصناعية، بتحرير أسعار المحروقات المخصصة للصناعة، لأن تأمين الأمن الطاقوي ضرورة، وتنهيها بأن ما سيناله عموم السوريون من أصحاب الدخل المحدود هو زيادة (التشغيل). وتشير بأنه على الطريق (سيتضرر البعض من الضعفاء)، وذلك لن يكون سوى عثرة علينا أن نتحملها، مقابل نجاح السياسات التي تعلن دعم الصناعة. فما هو حجم هذا الضرر الماثل على طريق (استراتيجية نمو الاقتصاد السوري في الحرب)؟
البنزين يستمر «حراً»
الرفع الحالي ثبّت تحرير سعر البنزين ونقله إلى سعر التكلفة بحسب تصريح لوزير النفط ليبلغ سعره 140 ل.س، مع العلم أن الأمر سابقاً لم يكن ضمن «إطار الدعم». يؤكد ذلك بيانات شركة محروقات المسؤولة عن توزيع كافة المشتقات النفطية، حيث يؤكد فرق شراء ومبيع البنزين فيها أن عام 2013 قد حقق فائض مبيعات يفوق مليار ل.س، مع بقاء مخزون قيمته 11 مليار ل.س!! وحول دقة بيانات الحكومة فإن للحديث بقية.. مقابل هذا المكسب الحكومي سيرفع البنزين من تكلفة النقل بشكل رئيسي، والتي تبلغ تكلفتها لأسرة من خمسة أشخاص بحركة بالحد الأدنى مقدار 10 آلاف ليرة، أي نصف دخل معيلهم بالأجر الوسطي 20 ألف، أما صاحب الأجر الذي سولته نفسه سابقاً شراء سيارة، فعليه أن يركنها جانباً.
المازوت لم يعد (أبو الغلابة)
المازوت هو المشتق النفطي صاحب التأثير الأكبر، فالليتر الذي كان يوماً ما بـ 7 ليرات، يعتبر من أهم الأوتاد التي ثبتت مستويات الأسعار في سورية وجعلت الحياة والتطور ممكناً للأسرة السورية، مقابل مستوى الأجور الثابت والمنخفض لعقود.
اليوم تترك الأجور أمام (غول) التضخم النقدي، الذي يعتبر انفلات أسعار المحروقات آخر الدعائم التي كانت تردعه. حيث أن رفع سعر المازوت إلى 80 ل.س بنسبة 33% زيادة، سيؤدي إلى ارتفاع في المستوى العالم للأسعار بالحد الأدنى 13,2%، وذلك وفق معادلة سورية محسوبة من قبل مختصين كانت تشير إلى أن كل رفع بنسبة 1% في سعر المازوت يؤدي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار بنسبة 0,4%. وبالتأكيد فإن هذه النسبة ترتفع في الظروف الحالية بعد أن (فرطت) كل آليات ضبط الأسعار، بنية وقصد وسياسة التحرير الحكومي الكلية أو الجزئية.
الأجور تحمل العبء والفقر
تتلقى أجور السوريين الهشة والمتلاشية أمام مستويات الأسعار، الاستراتيجية الحكومية الليبرالية، وتتحمل كل نتائجها. فكل ارتفاع في مستوى الأسعار يدفع من جيوب أصحاب الأجور تحديداً، الذين بلغ تعدادهم قبل الأزمة 3,2 مليون من القوى العاملة، ومع أسرهم فإنهم يشكلون ما يزيد على 80% من السوريين، ونصفهم عاطلون عن العمل اليوم مع وصول نسبة البطالة إلى 50%. أجر العامل السوري البالغ بالمتوسط 20 ألف ل.س، يعيل أكثر من ستة أشخاص مع ارتفاع مستوى البطالة، بينما يحتاج تغطية نفقات رئيسية لأسرة من خمسة أشخاص أكثر من 90 ألف ل.س محسوبة على أساس سلة الاستهلاك للحاجات الرئيسية. اما بالنسبة للفقر المطلق، فإن كل أسرة سورية من خمسة أشخاص لا تحصل على دخل شهري يفوق 52 ألف ل.س تعتبر فقيرة بالمطلق، لأنها لا تستطيع ان تؤمن نفقات حاجاتها الخمس الرئيسية: الغذاء- الملابس -التعليم- النقل- الصحة وفق تعريف الأمم المتحدة وحسابات للتكاليف الفعلية في الظرف السوري الحالي.
هذه المبالغ التي تغطي الحاجات الرئيسية للأسرة سترتفع مع ارتفاع أسعار المحروقات، ناقلة تكاليف معيشة الأسرة إلى حدود أعلى، لن يستطيع 80% من أصحاب الأجر أمامهما إلا التخلي عن الأساسيات من حاجاتهم أي نقص حاد في الغذاء والدواء، والتخلي عن جزء من التعليم وتشغيل الأطفال، أو اللجوء إلى الأعمال غير الشرعية بأنواعها العديدة المتاحة في الظرف الحالي. تجاوز الفقر عتبات الـ 80% من السوريين، وكل نتائج (الطرق المنحرفة) التي ستضطر الأسر السورية إلى اتخاذها لتأمين حاجاتها الرئيسية، هي ما تجازف به الحكومة وتضعه كأثر على نمو وتنمية!!
المضمون من (استراتيجية التعويض)
رفع سعر المازوت السابق في شهر 6-2013، لم يمر دون أن يترافق مع زيادة أجور، كانت بمثابة تعويض عن أثر رفع سعر المازوت، وقد حصل ذلك نتيجة وجود أصوات في الحكومة كانت ترفض سياسة رفع الدعم. أما اليوم فيقدم للسوريين عوضاً عن التعويض، استراتيجية جديدة! النقاش حولها يطول، ولكن المضمون الوحيد منها هو ارتفاع جديد لمستوى الأسعار، وخسارة الشرائح الضعيفة على طريق الوصول إلى نتائج استراتيجية دعم الصناعة والتصديرية منها! المضمون الوحيد من نتائج هذه الاستراتيجية هو تراجع الأجور الحقيقية، وبالتالي قيمة الليرة الحقيقية، وانتقال أرقام وواقع فقر السوريين إلى مستويات غير مسبوقة، وهذه هي (العثرة) أو (الضرر) الذي سينال الضعفاء فقط.
عندما يكون الضعفاء هم غالبية السوريين وأكثر من 80% منهم، فإن الضعفاء هم البلاد، وتحميلهم مضار استراتيجيات نمو من زمن آخر، هو تحميل البلاد ككل. فأي أهداف يمكن تحقيقها في بلاد دخل 80% من سكانها في الفقر والعوز، ويحتاج أكثر من نصفهم للإعانة المطلقة. إن كل استراتيجية لا تنطلق من إغاثة الأجور والأسر، ودعم الإنتاج الذي يرتبط بالرفع المباشر لمستوى معيشة السوريين ويقدرون على استهلاكه، وكل إنفاق حكومي لا يوظف في هذا المطرح، هو تعامٍ مطلق عن الحقائق، وهو خطأ اقتصادي وأخلاقي معاً