«عقلنة» الدعم.. الخطوة الأولى في النفق المظلم!
تقوم إحدى أركان استراتيجية “عقلنة” الدعم التي اعتمدتها الحكومة في بيانها الجديد على افتراض إمكانية القيام بسلسلة من الخطوات المتتابعة والتي تهدف في كل مرحلة من هذه السلسلة إلى تحسين وضع المواطن.
تبدأ هذه السلسلة من تحرير استيراد مادة المازوت للصناعيين مدعية أن هذه الخطوة هي المنطلق الضروري للسلسلة التي تأخذ الشكل التالي حسب الشرح المستفيض لوزير الاقتصاد الدكتور همام الجزائري على التلفزيون السوري:
تحرير استيراد المازوت للصناعيين إلى تأمين مادة المازوت للإنتاج إلى ضمان استمرار الإنتاج إلى تصدير المنتجات وتحقيق فوائض (بالعملة الأجنبية) إلى تحسين سعر الصرف!
وتفترض هذه المتسلسلة أن كل مرحلة من مراحلها ستحتوي على عائد إيجابي مباشر على المواطن، فمرحلة تحرير استيراد المازوت ستخفف العبء على الحكومة مما يجعل إنفاق الحكومة مركزاً على المواطن لا على المنتج والمواطن معاً. ومرحلة استمرار الإنتاج تعني تشغيل العديد من العاطلين عن العمل وتأمين دخل ما لهم، ومرحلة تخفيض سعر الصرف تعني تحسن الليرة وبالتالي انخفاض الأسعار وتحسين مستوى معيشة المواطن!!.
ولتوضيح مدى منطقية هذا الطرح الذي يدعي الجدية ينبغي مناقشة هذه السلسلة ومدى إمكانية تحققها، ومدى قدرتها فيما لو تحققت على إنجاز الحل الضروري للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد جزئياً أو كلياً.
ماذا عن الفساد والتهريب؟!
فحول فكرة أن السماح للقطاع الخاص بالاسيتراد سيؤدي إلى تأمين المادة فإن هذه العملية محفوفة باحتمالات عدم التحقق رغم الضوابط التي تحدث عنها الوزير، ففي ظل عدم تأمين المادة لقطاعات الاستهلاك الداخلي كالتدفئة والنقل وارتفاع أسعار المازوت في الكثير من المناطق السورية إلى مستويات أعلى من السعر العالمي وفي ظل تغلغل قوى الفساد في عمليات توزيع هذه المادة فإن إمكانية التهريب وإنشاء سوق سوداء للمادة هو أمر وارد وبالتالي فإن حبكات الحكومة في هذه الخطوة التي لم تر ضرورة ضرب مافيات تهريب المازوت بيد من حديد كأولوية استراتيجية تعني أنها خطوة غير حاسمة لتحقيق الهدف.
هل سيستمر الإنتاج؟.. غرف الصناعة تقول غير ذلك!!
أما حول فكرة أن المادة ستؤدي إلى استمرار الإنتاج، فالحقيقة التي ينغي أن نبحثها هنا أن شروط استمرار الإنتاج في الحالة السورية تتعدى بكثير شرط تأمين المازوت الذي يعد فقط أحد الشروط، فالاستقرار السياسي على سبيل المثال هو شرط حاسم وماتحدث به وزير الاقتصاد حول المصالحات والتي أثبتت الوقائع هشاشتها هو جزء بسيط من عملية الاستقرار السياسي الضروري لاستمرار الإنتاج، كما أن أهم الشروط التي غفل عنها الحديث هو استقرار سعر الصرف كمنطلق لعملية الإنتاج، طالما أن معظم الإنتاج التي تفترضه الحكومة سيقوم على التصدير لا على الاستهلاك المحلي، وتحسن سعر الصرف المفروض في نهاية السلسلة فهو نتيجة لاحقة وفق وزير الاقتصاد بينما تقتضي الحالة السورية لعودة الإنتاج لأجل التصدير ضبط سعر الصرف الذي لم يتحدث به أحد إلا كنتيجة لا كشرط وسبب. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة لحديث السيد فارس الشهابي رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية الذي رأى في أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى ضرب الإنتاج، وذلك في تعليق له على صفحات التواصل الاجتماعي:
(أي محاولة لتسعير مادة المازوت بالسعر العالمي للمدن الصناعية دون توفر الكهرباء للمعامل سيؤدي إلى شلل هذه المدن وتوقف معظم معاملها عن العمل وإلى انتكاسة كارثية في جهود إعادة الإعمار وإعادة عجلة الإنتاج وإلى إضعاف الثقة الاستثمارية المترددة أكثر مما سيلحق الضرر البالغ بالاقتصاد الوطني وبلقمة عيش المواطن وبمعيشته... نحن نحذر قبل فوات الأوان لأن الواقع على الأرض مختلف والصعوبات كبيرة جداً والتكاليف مرتفعة بسبب الدمار والتخريب والبنية التحتية متضررة بشكل كبير ويجب مساعدة المعامل لتقلع وليس وضع العراقيل أمامها في هذه الظروف الحساسة والخطيرة... لذلك نقترح استثناء المناطق الصناعية التي لا تتوفر فيها الكهرباء من أي رفع لأسعار مادة المازوت لحين توفر الكهرباء بالحد المقبول وبعدها فليسعر المازوت بالسعر العالمي».
صادراتنا قبل الأزمة خير دليل!!
أما حول التصدير وقدراته على العودة للبلد بالنمو والمدخرات فعلينا أن نكون «عقلانيين» في التعويل على هذه الخطوة، ولنعد إلى إحصائيات ماقبل الأزمة السورية حيث كان الإنتاج في أوجه والتصدير في أوجه لنرى ماهي مساهمة هذا التصدير في الناتج لنتأكد هل تحمل هذه الخطوة فيما لو تحققت الكثير من الثمار، فنسبة صادراتنا إلى الناتج قبل الأزمة كانت عند 21% في عام 2010 ونصف هذه الصادرات تقريباً من المواد الخام الصادرات كالنفط والقطن والقمح أهم مصارد القطع الأجنبي، وحين ذاك كان الإنتاج في أوجه ولم تسهم الصادرات الأخرى صناعية وغيرها إلا بـ 10% من الناتج فقط، فكيف ستؤثر هذه الصادرات بشكل جدي على النمو في هذه الظروف؟!.
طبعاً لا شك أن صاحب الفكرة لمح لضرورة تعديل طبيعة الإنتاج ليكون مناسباً لعمليات التصدير، ولكن إذا كان مدخل الطاقة غير مدعومٍ، فما هي إمكانية منافسة هذه السلع المصدرة للدول وهي صناعات مشابهة للكثير مما هو موجود في الدول المجاورة هل يكفي الاعتماد على الأجور المنخفضة وإنخفاض سعر الصرف للمنافسة، فطالما أن إنتاجنا غير قادر على إغراق السوق المجاورة بكميات تسمح له السيطرة على الأسعار هناك وذلك بسبب قدراتنا الإنتاجية المتواضعة والمتقلبة في ظروف الأزمة وطالما أن كفاءتنا الإنتاجية ستصعب عليها لمنافسة السلع الغربية أو الصينية فتغيير نمط صادراتنا لن يكون كافياً لجعلها تستهلك بشكل كبير في الأسواق المجاورة.
هل ستنخفض الأسعار مع تحسن سعر الصرف؟!
أما الهدف النهائي المتمثل بضرورة تحسين سعر الصرف لأجل تحسين القوة الشرائية فهو هدف ذو نتائج متناقضة -فيما لو تحقق نتيجة التصدير فقط- فتحسين سعر الصرف لأجل تحسين القوة الشرائية للمواطن يعني الإضرار بمصلحة المصدر الذي يرغب بإنخفاض سعر الصرف ليقدر على المنافسة في الأسواق الأجنبية. أما إذا كان الهدف هو استقرار سعر الصرف عند حد ما، فإن هذا سيكون صحياً بالنسبة للمصدر والمنتج ولكنه لا يعني إطلاقاً أنه سيكون جيداً بالنسبة للمواطن، فاستقرار سعر الصرف عند سعر منخفض سيفيد المصدر ولكنه سيضر المواطن الذي يستهلك جزءاً هاماً من مواده التموينية من المستوردات التي ترتفع أسعارها بسبب انخفاض سعر الصرف. وإن القول بالتعويض عن هذه الواردات بالإنتاج المحلي الذي ستنعشه إجراءات الحكومة لا يعني إنخفاض الأسعار إطلاقاً، فالمنتج المحلي والزراعي تحديداً مرتبط بشكل أساسي بأسعار الطاقة (التي تم تحريرها في بداية السلسلة) وأثبتت التجربة السورية حتى اللحظة أن حلقة التجارة الداخلية المحررة من القيود تزيد أسعارها مع أي انخفاض في سعر الصرف ولا تنخفض هذه الأسعار بارتفاع سعر الصرف.
لا يشك أحد بضرورة عودة الإنتاج كشرط لتحسين الوضع الاقتصادي والمعاشي، لكن ضمن هذه الاستراتيجية فاستمرار الانتاج أمر مشكوك فيه، وبأحسن الأحوال سيستمر الإنتاج بحدوده الدنيا غير الكافية إطلاقاً لإنجاز المهمة الضرورية، كما أن الربط المباشر بين استمرار الإنتاج والتشغيل غير كاف لتحسين الوضع المعاشي طالما أن الفجوة بين الأجور ومستوى المعيشة بات هائلاً ومستويات البطالة تجاوزت 50%، والقول بأن الحكومة ستتفرغ للمواطن بعد خلاصها من واردات المازوت لقطاع الصناعة هو أمر مثير للدهشة فطالما حررت الحكومة العديد من القطاعات التي أدت إلى رفع الأسعار وحققت الحكومة إيرادات إضافية إلا أنها لم تزد نفقاتها على المواطن. فما الجديد بعد الخلاص من الدعم «المجنون»؟!