سبع عجاف أم سمان؟!
تتوسد دمشق الفيحاء سفح جبل قاسيون وتمتد في بساتين غوطتها بسكانها الذين تجاوزوا ستة الملايين، وهي في نمو واتساع لافتين، وبعودة سريعة إلى بداية القرن العشرين نتبين الفروق بعدد السكان وامتداد المدينة، يوم كان عدد سكانها لا يتعدى مائتي ألف نسمة، وكانت «الدواب» وسيلة المواصلات التي تطورت إلى العربات التي تجرها الأحصنة،
ثم تطورت الأحوال وتقدمت وقد حدثني والدي وأنا طفل صغير عن جدي فقال: كنت في الثامنة من عمري، وأبي مريض طريح الفراش، ألعب أمام باب البيت حين مر عامل كهرباء ألماني على دراجته الهوائية من غرب الحارة إلى شرقها، فكان لمنظره وهو يمتطي الدراجة وقعه الهائل على أهل الحارة الذين تنادوا رجالاً ونساءً لرؤية هذا الشيء الفريد.. رجل على دولابين.. ويا لغرابة ما يرون، وعندما عاد راكب الدراجة كان أهل الحارة عن بكرة أبيهم يحتشدون على طويل الطريق وأصواتهم تصل إلى أطراف الحارة، فنادى جدي على أبي وسأله عما يجري؟ فقال أبي لقد مر رجل فوق دولابين وبسرعة عبر الطريق، فهتف جدي مستعيذاً بالله «هذه من علامات القيامة... ياالله الطف بنا... ونجنا يا رب» المهم لم تقم القيامة يومها، بل ارتفعت بعد فترة أعمدة الكهرباء وأنيرت المدينة ومدت فيها سكة «الترام» الحافلات الكهربائية لخمسة خطوط هي المهاجرين والشيخ محي الدين والميدان والقصاع وحرستا - دوما.
تنطلق الحافلات من مركزها الرئيسي قرب مقهى الهافانا وسينما روكسي وعبر ساحة المرجة تتوزع متجهة إلى المناطق المذكورة. وفي طريق الصالحية يمر خطا المهاجرين والشيخ محي الدين، ولهما مواقف مشتركة هي فيكتوريا والبرلمان والشهداء وعرنوس والجسر الأبيض.
ومن هناك يمضي كل منهما إلى نهاية مساره.. ومحطتنا التي سنتوقف عندها في زاويتنا هذه موقف عرنوس أمام جامع «دك الباب» الذي تعرض لحريق كبير أتى عليه بالكامل في أوائل ستينيات القرن الماضي وأزيل نهائياً.. وعلى بعد عشرين متراً منه ينتصب بناء معهد العلوم والآداب المؤلف من طابقين ككل أبنية طريق الصالحية وبالقرب منه مكتب لحزب البعث وآخر للحزب السوري السوري القومي الاجتماعي، وفي المقابل تماماً من المعهد محل للخياطة النسائية وهو للرفيق الشيوعي القديم شكري صديق أحد أعضاء أول فرقة حزبية في حي الأكراد ضمت الرفاق إبراهيم بكري والشهيد حسين عاقو وعمر سوركلي وبهجت قوطرش. وفوق مدخل المحل صورة للرفيق خالد بكداش وإلى جواره محل لبيع البراويز وتعلوه أيضاً صورة كبيرة للرفيق خالد، وبجانبه محل الفوال «أبو دياب» الذي كتب عنه الرفيق نصر الدين البحرة المدرس في المعهد قصة قصيرة بعنوان «أبو دياب يكره الحرب» وأرسلها إلى مهرجان الشباب العالمي في وارسو عاصمة بولونيا وفازت بالجائزة الثانية، وإلى جانب المعهد استوديو إيلين عيسى للتصوير وهي أم زميلنا الطالب ميشيل منير أحد الطلاب الذين تعرفت عليهم في المعهد وتوطدت بيننا الصداقة فصرت أزوره في بيته ويزورني في بيتي وبدأت أحدثه عن الحزب حتى اقتنع به وقدم طلب انتساب إليه.
وفي المعهد الذي يديره مدير «رجعي» يكره التقدم ويعادي الشيوعيين شكلنا لجنة للطلاب مارست نشاطها وشاركت في الإضرابات الطلابية الوطنية ومن ذكريات تلك الأيام ذكرى اتفاقنا على القيام بزيارة لبيت الرفيق خالد بكداش مع مجموعات من طلاب مدارس أخرى، وفي الموعد المحدد فتح لنا الباب الرفيق نديم أبو النور مرافق الرفيق خالد ودخلنا البيت وفي ساحته الكبيرة التقينا الرفيق الأمين العام واستمرت المقابلة أكثر من ساعة استمعنا خلالها لحديثه عن نشاطه في البرلمان وعن السياسة عموماً، كما أجاب عن أسئلتنا الكثيرة والمتنوعة، وأذكر من طلاب المعهد الذين شاركونا الزيارة بدر مقطرن وياسين حيدر وسهيل الفيل ووليد مارديني وعلي أبو عجيب وفهمي البكار وأكرم ومحمد خير بالإضافة إلى الرفاق عبد الوهاب رشواني وعبد الرزاق عرفات وعبد الرؤوف حاج حسين ومحمود برازي. وقد أحسسنا فعلاً أننا استفدنا من الزيارة وفهمنا أشياء كانت تشغل بالنا، وقد هتفنا بحياة الأمين العام فقال لنا: اهتفوا للحزب ولجنته المركزية، ومد يده إلى جيب بنطاله ثم أخرجها وقال «اللجنة المركزية بتطالع عشرة أمناء عامين، أما الأمين العام ما بطلّع لجنة مركزية واحدة» ولحظتها عادت بي الذاكرة إلى خطابه في المهرجان الانتخابي عام 1954 الذي بدأه بقوله: «نلتقي اليوم بعد سبع سنوات من لقائنا الانتخابي السابق عام 1947، إن البعض يقول عنها إنها كانت سنوات عجافاً، أما أنا فأقول إنها سنوات سمان ازداد فيها شعبنا وعياً وإدراكاً ونضالاً، وحزبنا ازداد عدداً وانتشاراً.. ازداد قوة وهيبة وصلابة في خدمة الشعب والوطن».
وفي اليوم التالي وصلت أخبار الزيارة إلى مدير المعهد فدخل علينا الصف وألقى «محاضرة عصماء» في الدراسة والنظام والابتعاد عن السياسة، وخص بهجومه المحموم الرفيق ميشيل، ومما قاله: «كيف بتروح معهم وأبوك مدرس في هذا المعهد.. وأنت كاثوليكي والشيوعيون أورثوذوكس... كيف بتمشي وبتروح مع هؤلاء (الزعران)؟!.»