واشنطن تخيّر العرب: الاستعمار أو «داعش»
لبنان في حقل الألغام الأميركي السعودي ضد «داعش». أول ما يقفز إلى الواجهة في بيان العشرة العرب في جدة هو توريط لبنان في استراتيجية أميركية سعودية لاحتواء «داعش» وليس القضاء عليه، وبروزنامة لا مهلة زمنية لها، لا طاقة لقدرات لبنان المتواضعة على احتمالها، وتضع حداً لما تبقى من سياسة النأي بالنفس الرسمية، وتدخل لبنان نهائياً في المحور الاميركي السعودي.
ويستجير لبنان في انضمامه الى التحالف من نار الحرب العرسالية التي عجز عن خوضها، برمضاء الانخراط في الحرب الشاملة، كما وصفها وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل نفسه.
وقع لبنان على بيان التزم فيه بمحاربة «داعش» إلى جانب 40 دولة من «أصدقاء سوريا»، ووضعه الفيصل على جبهة واحدة «مع اليمن والعراق وسوريا وليبيا لمواجهة الإرهاب في حرب شاملة»، من دون أن يسمي في الجبهة، السعودية نفسها التي صدرت وتصدر الآلاف من المقاتلين إلى «داعش» الذي تدعو إلى تدميره.
وكان وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل مزايداً على الأميركيين حيث رأى أن «لبنان شريك العالم في الحرب ضد الإرهاب»، مشيراً إلى أنّ «الأولوية هي لاستئصال داعش وليست لتحجيمه أو احتوائه فقط، فيجب أن لا يوجد أساساً، وأيديولوجيته يجب أن تزول وتختفي».
أما الأتراك، فقد نأوا بأنفسهم عن التوقيع على بيان الحرب، وهم الطرف الأول الذي يطاله الفصل السابع من القرار 2170 مباشرة، وفي كل فقراته، من تمويل الإرهابيين إلى توفير ملاذات آمنة لهم ومعابر إلى العراق وسوريا.
ويخاطب البيان بوضوح الأتراك والأردنيين والسعوديين والقطريين، أكثر ما يخاطب في نصه «على وقف تدفق المقاتلين الأجانب عبر الدول المجاورة، ومواجهة تمويل الدولة الاسلامية، وجلب المرتكبين امام العدالة، والمساهمة في عمليات الاغاثة الإنسانية».
ويتذرع الاتراك بالخوف على مصير 40 رهينة من ديبلوماسييهم في قنصلية الموصل بيد أبي بكر البغدادي، مكتفين بالمشاركة في الاغاثة الانسانية، من دون اي التزام بإغلاق حدودهم بوجه قوافل «الجهاد العالمي» العابر من حدودهم الى سوريا، والذي لم يتوقف حتى بعد صدور القرار 2170.
ويلزم البيان لبنان، حتى إشعار آخر، باستراتيجية التحالف، وبفتح أجوائه للطائرات الاميركية ولطائرات الحلفاء ولشركاء التحالف الذين قد يقومون باستخدامها للاغارة على مواقع «داعش» في سوريا والعراق، فيما ترفض تركيا حتى الان تقديم قواعدها للعمليات الجوية للتحالف.
ولا يخفف من الورطة السياسية اللبنانية هامش البيان واستدراكه نصاً «بمشاركة الدول الموقعة على البيان، إذا كان ذلك مناسباً، في الأوجه المتعددة للحملة العسكرية المنسقة ضد تنظيم الدولة الاسلامية». وينسف بيان التحالف ما تبقى من المنظومة الإقليمية العربية، بدءاً من الجامعة العربية التي وضعت الإرادات العربية في خدمة الحرب الأميركية على الإرهاب من دون قيد أو شرط، ومن دون أن تجتمع على استراتيجية عربية مستقلة عن الأجندة الأميركية الغربية، والتباس أهدافها في حرب تجري فوق الأرض العربية وفي سماء العرب وبزعامة «الولايات المتحدة، ولتأكيد زعامتها في العالم»، كما قال الرئيس الأميركي باراك أوباما ثلاث مرات في خطابه إلى الأميركيين، مستدركاً أن الولايات المتحدة «ستقود هذا التحالف»، الذي يضم بشكل خاص الدول العربية، كما قال.
والأرجح أن يمول العرب تكاليف الحملة العسكرية الجوية الاميركية كما حصل في «عاصفة الصحراء»، إذ قال مسؤول أميركي إن «للسعودية دوراً أساسياً لحجمها ووزنها الاقتصادي، والبعد الديني».
ويفوض الأردن ولبنان والكويت ومصر والسعودية وعمان وقطر والبحرين والعراق والامارات، استقلالهم وإرادات شعوبهم لأجندة الولايات المتحدة، مكتفين بدور المنفذ للاميركيين الذين سيقودون سياسة التحالف وعمليته، وفق خطاب أوباما «لإضعاف داعش، وتدميره في ما بعد» في غضون عامين أو ثلاثة، وإطالة أمد العمليات بحسب ما ترتئيه المصالح الأميركية وبالجرعة التي تفي بإستراتيجيتها في سوريا باستمرار الحفاظ على ما يكفي من الجماعات «الجهادية» لإطالة أمد الحرب ومنع استفادة سوريا من الضربات الجوية.
وفي سبيل ذلك، لم يجد الرئيس الاميركي خطة لمواجهة «داعش» أفضل من العودة إلى أفكار أمير الاستخبارات السعودية السابق بندر بن سلطان. فإعلان السعودية الموافقة من ضمن الحرب على «داعش» بتمويل وتدريب مقاتلين سوريين على أراضيها، هو إحياء لخطة بندر بن سلطان، وعودة إلى البندرية من دون بندر المبعد عن الملف، مع وضع المشروع في سياق القرار 2170 والحرب على الإرهاب بما يتيح أفضلية استخدامه ضد الجيش السوري.
وكان بندر قد اقترح قبل عامين إنشاء «الجيش الوطني السوري الحر»، ووضع ميزانية من خمسة مليارات دولار تنفق على ثلاثة أعوام لتسليح وتدريب 15 الف مقاتل على أيدي عسكريين باكستانيين وأميركيين وأردنيين في مخيمات الطائف.
وجرى التفكير بتجنيد العشائر، وتكليفهم باختراق الجبهة الجنوبية من الاردن نحو دمشق. وكانت الخطة قد أصيبت بفشل ذريع أزيح من بعدها بندر، فيما تقول معلومات إن الاميركيين يحاولون احياءها عبر تكليف ضابط منشق من الدائرة الرئاسية السورية الأولى بتشكيل الجيش، وبتشجيع فرنسي. وتقول معلومات إن جون كيري التقاه في عمان مؤخراً لتكليفه رسمياً بالعودة الى العمل بالمشروع البندري.
لكن الضابط المنشق يعمل منذ عامين على خط عمان - اسطنبول من دون نتيجة حتى الآن، إذ يحتاج تكوين قوة بهذا الحجم إلى عامين أو ثلاثة على الأقل، ما يجعل من أي قوة معتدلة رهاناً يتعارض مع الحاجة السريعة الى قوة تستفيد من الضربات الجوية وتشي بطول العمليات العسكرية في ذهن الاميركيين.
وقال أوباما في خطابه «سنضرب أهدافاً لداعش بينما القوات العراقية تقوم بالهجوم. أوضحت بأننا سنضرب الإرهابيين الذين يهددون بلدنا اينما كانوا. يعني ذلك اننا لن نتردد في التحرك ضد داعش في سوريا، كما في العراق. هناك مبدأ جوهري في رئاستي: إذا هددتهم اميركا فلن تجدوا ملجأ آمناً».
وأضاف أنه «عبر الحدود، في سوريا، قمنا بزيادة مساعدتنا العسكرية للمعارضة السورية. الليلة، أدعو الكونغرس مجدداً إلى منحنا سلطات اضافية وموارد جديدة لتدريب وتجهيز هؤلاء المقاتلين. في الصراع ضد داعش لا يمكننا الاعتماد على نظام الأسد، الذي يروّع شعبه. هذا النظام لن يستعيد الشرعية التي فقدها. في المقابل، فإن علينا أن ندعم ونقوّي المعارضة كي تتمكن من مواجهة داعش، بينما نواصل العمل من اجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة في سوريا مرّة واحدة ونهائياً».
لكن التحالف الجديد يواجه كتلة كبيرة من التناقضات تسوده وتحد من التفاؤل، تجاهلها خطاب أوباما وبيان جدة، ينبغي أن تطمئن إلى حين الخليفة أبو بكر البغدادي أينما حل. فليس واضحاً حتى الآن ما اذا كان السباق القطري السعودي الى تسليح «الجهاديين» في سوريا سيتوقف. وكيف يمكن ان يعهد بتجفيف ينابيع تمويل «داعش» و«جبهة النصرة» إلى حلف تتوسطه قطر، التي تقيم أفضل العلاقات مع «النصرة»، والتي أنفقت على حلفائها في سوريا بحسب «فايننشال تايمز» البريطانية ثلاثة مليارات دولار مع نهاية العامين الأولين من الحرب السورية.
وهل يمكن ان نعهد بالأمر نفسه إلى السعودية، التي تواصل هيكلة وتجميع وتركيب «الجهاديين» دونما نهاية، والمراهنة على زهران علوش و«الجبهة الاسلامية» لشن الحرب في سوريا بديلاً عن «داعش»؟
ولا تتوقف التناقضات عند هذا الحد، فالمعارضة المعتدلة التي يدعو أوباما الكونغرس إلى مساعدتها وتخصيص موازنة لها لتعوض عن رفضه للتعاون مع الجيش السوري، ليست سوى المعارضة نفسها التي كان يعتبر وجودها قبل شهرين ضرباً من الوهم. كما أن السجال على ضرب «داعش» في سوريا من دون التنسيق مع دمشق أو الاكتفاء بضربه في العراق، يخالف موقف الأركان الاميركية، ولكن الأهم أن المخزون الأكبر من غنائم «داعش» من أسلحة الجيش العراقي ومعداته المقدرة بمليارات الدولارات، أعيد تجميعها وخزنها في الشرق السوري، ومن دون ضربها، سيكون بوسع «داعش» متى شاء إدخالها إلى العراق وإطالة أمد الحرب.
وإذا كان الشق العراقي من مهمات التحالف قد حسم بفضل دعوة الحكومة العراقية الشرعية الأميركيين إلى التدخل، إلا أن الشق السوري الذي لا يزال موضع خلاف كبير يواجه اعتراضاً روسياً وإيرانياً وشكوكاً في أوساط التحالف نفسه. إذ ربط المتحدث باسم الخارجية الروسية ألكسندر لوركاشيفيتش أي ضربة عسكرية في سوريا بشرطي «موافقة الحكومة السورية، وقرار من مجلس الأمن، وإلا سيعد انتهاكاً للقانون». ورد جون كيري «بالمفاجأة أن تتطرق روسيا للحديث عن القانون الدولي بعد ما حدث في أوكرانيا».
وكانت طهران أبدت أمس، شكوكاً في «جدية وصدق» الائتلاف الدولي الذي تريد الولايات المتحدة تشكيله، حيث قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية مرضية أفخم إن «هناك علامات استفهام بشأن الائتلاف الدولي المزعوم ضد الدولة الاسلامية».
وأضافت أفخم أنه «يمكن أن نتساءل بشأن جديته وصدقه في التصدي للاسباب الحقيقية للارهاب»، متهمة بعض دول الائتلاف من دون أن تسميها بـ«تقديم الدعم المالي» لهذا التنظيم في العراق وسوريا في حين «يرغب آخرون في إحداث تغييرات سياسية في العراق وسوريا لخدمة مصالحهم الخاصة».
وجلي أن القرار 2170، لا يتيح أي عمل عسكري من دون العودة إلى قرار جديد في مجلس الأمن. ويسعى الروس من خلال إعادة النقاش في الحرب على الإرهاب اشتراط العودة إلى مجلس الأمن ووضع سوريا في موقع الشريك في التحالف، لمنع استغلال الضربات الجوية ضد الجيش السوري وإطلاق يد الأميركيين دون قيد أو شرط وتكرار السابقة الليبية.
وتواجه حرب أوباما على رأس العرب ضد «داعش»، شكوكاً حتى من الاصدقاء الذين يبدون حذراً أكبر من الأميركيين في حق التحالف في توجيه ضربات في الأراضي السورية من دون قرار من مجلس الأمن.
ويتحفظ الفرنسيون، بحسب مصدر في الإليزيه، على المشاركة في الأعمال العسكرية في سوريا. وقال المصدر إن هناك مشكلة سياسية وقانونية في العمل في سوريا لا نزال ندرسها.
البريطانيون أيضاً كانوا حريصين على عدم التدخل. فأعلن أمس، وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند أن لندن لن تشارك في ضربات جوية في سوريا، قائلاً: «فلنكن واضحين، بريطانيا لن تشارك في ضربات جوية في سوريا»، مذكراً بمعارضة التدخل العسكري في سوريا في تصويت أجراه البرلمان البريطاني العام الماضي.
وأضاف هاموند أنه «سبق أن أجرينا هذا النقاش في البرلمان في العام الماضي ولن نعيد النظر في هذا الموقف»، من دون استبعاد المشاركة في ضربات في العراق.
أتت تصريحات هاموند في مؤتمر صحافي مشترك في برلين مع نظيره الألماني فرانك فالتر شتاينماير، الذي أكد أيضاً أن المانيا لن تشارك في أي غارة جوية، سواء في سوريا أم العراق.
وقال شتاينماير إنه «بوضوح شديد، لم يطلب منا ذلك، ولن نفعل»، مشيراً إلى أن هذا الموقف المعروف لألمانيا يحترمه حلفاؤها الدوليون.
المصدر: السفير