سوريا: من ثقافة التغيير إلى سياسة التحرير
تُعبّر المفاهيم السياسية والثقافية عموماً، عن الواقع الاجتماعي. بالتالي فإن اعتماد مفاهيم سياسية وثقافية محددة يدل على واقع ملموس. وهذا يعني أن أشكال وآليات الممارسة السياسية، تُشكّل تعبيراً موضوعياً عن الواقع الاجتماعي، وتعكس أسباب وموجبات وأهداف العمل السياسي الذي يحتاج بالضرورة إلى حوامل اجتماعية قادرة على تحويل الفكر السياسي إلى قوة مادية فاعلة. وهذا ما كان غائباً ومغيباً عن ميادين الممارسة السياسية. أي أنها بقيت في إطارها النخبوي المفصول عن المجتمع وقواه الحقيقية.
لقد عانى المجتمع السوري ولم يزل، من أزمة عامة ومركبة طاولت كل المفاصل الاجتماعية والبنى السياسية والاقتصادية، حتى أنها نخرت عمق القاع الاجتماعي وآليات التفكير وتفاصيل الحياة اليومية. وكان هذا من الأسباب الأساسية التي دفعت القوى السياسية إلى طرح مهمات الانتقال إلى نظام ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية ويضمن المشاركة السياسية وسيادة أبناء المجتمع على مصيرهم.
وكان هذا بالضرورة يستوجب العمل على ثلاثة مستويات: الحفاظ على الاستقلال الوطني، تجاوز الحكم الشمولي إلى بناء نظام ديمقراطي مدني، تجاوز سلطة الدين في سياق العمل على بناء منظومة ثقافية تضمن الحرية الداخلية والروحية وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية الشخصية بشكل مستقل ومتحرر من جميع القيود والضغوط، بعيداً من الحقل السياسي. لكن جرى اختراق المستوى السياسي والثقافي الوطني الديمقراطي السلمي، بمحاولات وآليات عمل لا تندرج في إطار الممارسة السياسية الوطنية الديمقراطية. وكانت منها محاولة تنظيم الإخوان المسلمين بداية الثمانينيات من القرن الماضي. أما الثانية فقد تجلت في تعويل بعض الأطراف السياسية والشخصية على إمكانية التدخل الخارجي، وبناءً عليه، اشتغلت تلك الأطراف على إجراء التحضيرات السياسية والثقافية والاجتماعية لمشاريعها، وذلك في إطار ما كان يُعدُّ من الخارج، لسوريا والمنطقة آنذاك. وكان هذا في مطلع الألفية الثالثة وتحديداً بعد الغزو الأميركي للعراق، وخروج الجيش السوري من لبنان. وفي كلتي الحالتين كان المناخ الإقليمي والدولي يدل على ضعف السلطة السورية وإمكانية اختراقها من الخارج بشكل مباشر أو غير مباشر. لكن السلطة آنذاك حافظت على قوتها وتماسكها، واستطاعت أن تعيد إنتاج ذاتها.
وقد جرى التعويل مجدداً في ظل الأزمة الراهنة، من خلال ذات الأطراف السياسية وإن بأشكال جديدة، على إمكانية التغيير من الخارج. ذلك على قاعدة المراهنة، بأن إسقاط النظام السوري سوف يمر من بوابة الدعم الإقليمي والدولي. حتى أن هذه الأطراف راهنت على التدخل الخارجي كالذي حصل في ليبيا. لكن عدم التدخل العسكري المباشر من قبل الدول الداعمة للائتلاف السوري المعارض وفصائل الجيش الحر والمجموعات الجهادية على غرار ما حصل في ليبيا، لم يكن نتيجة عجز هذه الدول أو رفضها لفكرة التدخل المباشر في الصراع السوري. بل لكونها فضلت اعتماد آليات أخرى تمثلت في دعم زيادة حدة العنف بأشكال ومستويات متواترة ومختلفة. وكان هذا يتم في سياق إجهاض التغيير الوطني الديمقراطي السلمي وتهديم كيانية الدولة السورية وتحويل السوريين إلى أدوات في صراع دولي وإقليمي لفتح المنطقة على تحولات استراتيجية تؤمن مصالح الدول الداعمة لأطراف الصراع.
وقد استغلت بعض الأطراف السياسية ومنها «المجلس الوطني» سابقاً، والائتلاف الوطني حالياً ودول إقليمية وغربية، اعتماد السلطة للحل الأمني في مواجهة التظاهرات، قبل أن تتحول إلى الحل العسكري لمواجهة المجموعات المسلحة. وكان هذا التحول في شكله الأمني من جهة السلطة، والعسكري من قبل أطراف الصراع، إيذاناً بإخراج العقلانية السياسية من المشهد السوري. فطغى العنف على كامل الجغرافية السورية. ولم ينحصر هذا التحول على أطراف المعارضة المدعومة من الخارج فقط، بل تجاوزه إلى الممسكين بزمام السلطة، وتحديداً الرافضين لأي حل سياسي ديمقراطي، فكان سحق «المؤامرة والمتآمرين» بالنسبة إلى أصحاب القرار السياسي والعسكري والأمني هو الأساس. لكن من دون الالتفات الجدّي إلى عوامل الأزمة الداخلية. وتزامن هذا التحول مع دفع الأطراف الدولية والإقليمية إلى تصعيد المشهد العنفي بأحط أشكاله تخلفاً. حتى تحولت سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية على حساب دماء السوريين. فكان العنف المتبادل سيد المشهد السوري. فـ»الثورة» أكلت أولادها، بينما الحرب الأهلية والتناقضات الإقليمية والدولية ابتلعتها. فيما تضخم الجيوب الإسلامية التكفيرية الجهادية قضى على آخر ملامح الحراك السياسي الوطني. فالحرب التي تتمسك بها أطرف الصراع كوسيلة لتحقيق النصر، جرفت ملامح العقلانية السياسية، وأدخلت المجتمع السوري في طواحين العنف الأعمى.
لقد تقاطعت أطراف الأزمة السورية في استخدام القوة كوسيلة وحيدة لتحقيق أهدافها، من دون الاهتمام بتداعيات وانعكاسات وآثار العنف في البنى المجتمعية التي دخلت في طور التحلل والتحوّل إلى مكوناتها الأولية.
فالعنف الذي يسود المشهد السوري، لم يفتت مكونات المجتمع السوري ويمزقها ويدخلها في أتون صراع دموي فقط، بل حوّل سوريا إلى مناطق لجوء، ويهدد بضياع الاستقلال الوطني. وهذا يتجلى من خلال التدخلات الإقليمية والدولية المباشرة وغير المباشر. كذلك فإن المشروع الديمقراطي مهدد بالضياع نتيجة اتساع جيوب الحركات الجهادية التكفيرية التي تهدد بإعادة المجتمع السوري إلى أحط مراحله تخلفاً. فالدعم الإقليمي والدولي لهذه المجموعات يستبطن مصالح هذه الأطراف في سوريا. وقد بات واضحاً أن هذه المجموعات تجمع بين الدعم الخارجي والارتهان والسيطرة الخارجية عليها، والتعالي على المحكومين وممارسة القهر. والأخطر من ذلك أنها تنظر إلى العنف الذي تمارسه لفرض منهجها التكفيري على أنه عنف مقدس، حتى لو استدعى استباحة المجتمع وقهره. نعود إلى لغة وثقافة التغيير السياسي الديمقراطي، كونها منطلق كل نقد سياسي موضوعي وعقلاني. في هذا المستوى فإن نقد الغرب في سياق تدعيم الاستقلال الوطني وتطوير مجتمعاتنا، يُعتبر نقداً مشروعاً، أما أن يكون نقدنا للغرب مدخلاً إلى التمسك بالقيم البطريركية، والسلطوية الشمولية، فإنه يُعتبر تعزيزاً للتخلف والقهر. كذلك فإن نقد الإسلام انطلاقاً من نقد المجموعات التكفيرية التي تدعي احتكار تمثيل الإسلام بوجهه التكفيري القائم على إلغاء أشكال التنوع والاختلاف كافة، يُعتبر عملاً مشروعاً. تحديداً إذا كان في سياق تعزيز ثقافة المواطنة وحرية الفكر والتعبير وتمكين الإنسان من مصيره. أما أن يكون نقد المنظومة المعرفية الإسلامية بغرض تهديمها والاستعاضة عنها بمنظومة إيديولوجية أشد تخلفاً وانغلاقاً، فإنه يُخرج النقد عن سياقه الموضوعي، ويقود إلى مجتمع أكثر انغلاقاً وعنفاً. وإذا كان نقدنا للأطراف السياسية التي تدعي تمثيل الشعب السوري والمعارضة، على قاعدة التأسيس لمناخ سياسي ديمقراطي ورفض الارتهان للخارج، يُعبّر عن حالة موضوعية. فإن خروج النقد عن هذه الإطار يدخل في سياق تمكين الأحادية الفكرية والسياسية وتهديم أسس الديمقراطية. ويعتبر هذا مدخلاً لتأسيس أشكال أخرى من الاستبداد، ويساهم في تمكين التبعية والارتهان. وينطبق هذا على نقدنا للسلطة السياسية. فإذا كان النقد موجهاً إلى إشكالية احتكار السلطة، وطغيان الحل الأمني والعجز عن تحقيق مشروع تنموي يحقق العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية، فإنه نقد مشروع. أما أن يتم نقد السلطة على قاعدة الانتماء الطائفي فإن هذا يمثل مدخلاً إلى تمزيق النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية.
إن نقد الفكر الإسلامي ــ العلاقة مع الغرب ــ بنية الأنظمة الشمولية وكذلك المنظومات المعرفية للمعارضة وآليات اشتغالها يجب أن يكون من منظور تدعيم وعي اجتماعي يؤسس إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ويقطع مع الأنماط المعرفية الجامدة التي ساهمت في تفريغ الفكر من مكنوناته الحقيقية وأبعاده القيمية. وتحديداً تلك التي تنطلق من أسس طائفية وجهوية وعرقية وإثنية، من دون أن نستثني الأشكال العلمانية والليبرالية واليسارية التي تحولت في حقل الممارسة إلى عقائد إيديولوجية مغلقة.
إن اعتماد آليات اشتغال التغير السياسي «التحريري/ العنفي» القائم على المفاهيم الطائفية والتكفيرية والجهادية والأحادية السياسية، يقود إلى كارثة وطنية، وإلى الانغلاق على الذات، ويفتح الباب على الاحتلالات بأشكال ومستويات مختلفة، وهذا ما نشهده حالياً. إذ تحوّل العنف والتسلط والأنانية والأحادية والارتهان للخارج الإقليمي والدولي إلى سمات أساسية عند أطراف الصراع التي تبالغ في الانغلاق على الذات في سياق مواجهاتها البينية، في وقت تنفتح فيه حدود الوطن ومقدراته أمام أطراف خارجية تعمل على تدمير سوريا دولة وشعب.
وبدلاً من العمل على تأسيس مشروع ثقافي وسياسي منفتح على التطور والتنوع، نرى أن ما يتم الاشتغال عليه من قبل الأطراف السياسية الأحادية والجهادية التكفيرية، ينحصر في العودة إلى التاريخ والتمسّك بأشد أشكاله تخلفاً وانغلاقاً، وكأن الحل بالنسبة إلى هذه الأطراف، يكمن في نبش خزائن الماضي والغير.
فنماذج الحل الإسلامي أفضت وتفضي إلى مزيد من العنف والقمع والتخلف والتخلع القيمي والأخلاقي، وتثير كثيراً من المقاومات المجتمعية. أما فتح خزائن الماضي الإسلامي من أجل نقل بعض تجاربه إلى الحاضر، فإنه يحمل الكثير من العسف للإنسان المعاصر، وتحديداً ما نشهده من أعمال المجموعات الجهادية والتكفيرية والسلفية والوهابية التي تدّعي تمثيل الإسلام. وهذا يستوجب أن يكون نقد تجليات الفكر الإسلامي السلفي، الوهابي، والجهادي التكفيري قائماً على رؤية ثقافية تنويرية تحافظ على البعد القيمي والأخلاقي والإنساني. كذلك فإن خزائن غير الغربي تحديداً، كانت على الدوام مليئة بنزعات استعمارية تهدف إلى استباحة مقدرات شعوبنا وعرقلة عجلة التنمية، والدفع إلى مزيد من الارتهان السياسي والتبعية الاقتصادية والنيل من استقلالنا الوطني. ولا نأتي بجديد عندما نقول إن دول الشمال الاستعماري، كانت تدعم أنظمة الاستبداد بمستويات تتناسب مع حفاظ تلك الأنظمة على المصالح الحيوية والاستراتيجية لتلك الدول. من هنا فإن هذه الدول كانت وما زالت، من أشد المُعادين لتحرر الإنسان وتقدمه في بلداننا. لهذا فإن رهان بعض من أطراف المعارضة السياسية على الدعم الغربي، لا يعدو عن كونه غباء سياسياً. وأصحاب هذا التوجه يشاركون في فتح سوريا على مزيد من التبعية والتخلف والارتهان والقمع لضمان مصالح الدول الكبرى. وهذا ينطبق على بنية الاستبداد السياسي وآليات اشتغاله. وإذا أردنا أن نخرج من دائرة الانغلاق والتبعية والتخلف، يجب أن نقيم قطعاً معرفياً تنويرياً وديمقراطياً مع ملامح التاريخ المتخلف والاستبداد السياسي والغرب الاستعماري. وهذا يعني أن علاج الأزمة لن يكون موجوداً في خزائن الإسلام التكفيري أو الاستبداد السياسي أو الغرب الاستعماري. وهذا يعني أيضاً أن بناء منظومة ثقافية ديمقراطية تقطع في آونة واحدة مع الاستبداد السياسي والفكر التكفيري والتخويني، يستوجب رفض الحل العنفي الذي يشتغل على تكريسه أصحاب النزعة الأحادية، كونه يفتح الطريق أمام التدخل الخارجي، ويزيد من حدة الانقسام والصراع الداخلي، ويقود إلى الانهيار. فالعنف الذي يطغى على المشهد السوري كانت من نتائجه تدخلات خارجية متعددة الأبعاد والمستويات والأشكال. كذلك فإن هذه التدخلات كانت من الأسباب الكامنة خلف طغيان مظاهر العنف الذي تحول في سياق علاقة جدلية إلى سبب ونتيجة بآونة واحدة.
المصدر: الأخبار