الفلسطينيون شعب وليسوا «مجموعات سكانية»
في أول شهر من حرب الإبادة المتواصلة لم يحقق الجيش الصهيوني نصراً ميدانياً حاسماً . لكن حكومة العدو، بعنجهيتها وفاشيتها، ما زالت ترفض التسليم بالفشل، بل وعادت بعد أسبوعين من التفاوض إلى تجديد عدوانها وتصعيده، ظناً منها أن المزيد من المجازر سوف يكسر إرادة الفلسطينيين وعنفوان مقاومتهم، ويجهض إنجازهم الميداني النوعي، عبر إجبارهم على القبول بواحد من الشروط التعجيزية التالية: "رفع الحصار مقابل نزع سلاح المقاومة"، أو "الهدوء مقابل الهدوء"، أو "حاجات "إسرائيل" الأمنية مقابل حاجات غزة الإنسانية" .
إذاً نحن أمام ثلاثة شروط مختلفة في المظهر متطابقة في الجوهر، لتكريس الاحتلال وسياسته العدوانية المشحونة بفكر صهيوني عنصري لا يرى في الفلسطينيين شعباً له حقوق، إنما "مجموعات سكانية غير يهودية" لها حاجات إنسانية، تمنحها "دولة "إسرائيل" اليهودية"، أو تسحبها، وقتما تشاء، وارتباطاً ب"حسن السلوك" المساوي لتخلي شعب فلسطين عن حقه في المقاومة ثقافة وبنية وأدوات فعل . هذا علماً أن خبراء كثراً، بمن فيهم خبراء صهاينة، يرون أنه يصعب، وربما يستحيل، على الجيش الصهيوني تحقيق نصر حاسم يسمح بالحديث عن مثل هذه الشروط، من دون إطالة أمد الحرب، وتوسيع نطاقها وتعميقه، وتحويلها إلى اجتياح بري شامل كامل لقطاع غزة، أي إعادة احتلاله . وهو الأمر الذي، وإن كان بوسع الجيش الصهيوني القيام به، غير أن قيادة العدو، بمستوياتها السياسية والعسكرية والأمنية، تحجم عن الذهاب إلى مثل هذا الخيار، وتخشاه خشية البشر للطاعون، بدلالة التقدير الكارثي الذي قدمته قيادة الجيش على هذا الصعيد . ماذا يعني هذا الكلام؟
إن تهديدات حكومة العدو بالاجتياح البري لقطاع غزة هي مجرد تهويل لفرض شروطها التفاوضية وأهدافها السياسية، وفي مقدمتها فرض تفاهمات ل"التهدئة"، تكرس عزل غزة عن الضفة، إدارة وسياسة ومقاومة ومصيراً . لذلك، فإنه لئن كان مهماً إصرار الوفد الفلسطيني الموحد على تلبية مطلب وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة،، كمهمة عاجلة، فإن الأهم هو رفض أية التزامات، صريحة أو ضمنية، تخدم مخطط فصل غزة عن الضفة، أو تقييد مشاركتها في المقاومة لدحر الاحتلال عن كامل الأراضي التي احتلت عام ،1967 كمهمة وطنية فلسطينية مباشرة، على طريق تحقيق كامل الحقوق الوطنية الفلسطينية، وجوهرها حق اللاجئين في العودة والتعويض حسب القرار الدولي 194 . أما لماذا؟
بإفشاله لأهداف حرب المجازر الصهيونية على قطاع غزة، حقق الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة إنجازاً ميدانياً نوعياً، فتح أفقاً سياسياً رحباً لإعادة بناء السياسة الفلسطينية على أسس جديدة، سواء لجهة إدارة الصراع مع العدو الرافض، برعاية أمريكية، لكل أشكال التسويات السياسية المتوازنة، فما بالك بالعادلة، أو لجهة إدارة الخلافات والاختلافات والتباينات الفلسطينية الداخلية، أو لجهة إدارة معركة الرأي العام العالمي وكسبه لمصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه ومقاومته الوطنية . وهو ما لا يكون بغير تكامل إنجازات الميدان والسياسة، ما يوجب على أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية صيانة ما حققه شعبها ومقاومته الباسلة، وتطويره إلى خيار سياسي وطني جديد موحد، يقطع مع خيار ما قبل الحرب الهمجية على قطاع غزة، كخيار فاشل لم يقوَ لا على إنهاء الانقسام الداخلي بصورة كلية وجدية، ولا على إنجاز ولو الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، ولا على كسب الرأي العام العالمي، بل وأدخل المشروع الوطني الفلسطيني برمته في مأزق مستعصٍ، انفتح باب الخروج منه، أكثر من أي وقت مضى، بفضل دماء أكثر من 2000 شهيد وعشرة آلاف جريح، جلهم أطفال ونساء وشيوخ، وعذابات تشريد نحو نصف مليون مواطن، وتدمير أكثر من عشرة آلاف منزل، وتحويل أحياء سكنية بأكملها إلى أثر بعد عين . وبخلاف ذلك يصعب تفادي تكرار سيناريو تقزيم إنجازات الانتفاضة الشعبية الكبرى التي جعلت طرد الاحتلال وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من 1967 إمكانية واقعية .
بهذا، وعليه، تتضح الحلقة المركزية في واجب قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية إزاء شعبها الذي توحد، وصمد، والتف حول مقاومته الباسلة، لمواجهة حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة، ما نقل وحدة "حكومة التوافق الوطني" المتعثرة إلى وحدة مقاومة لإسقاط مخطط تكريس الاحتلال للضفة وغزة، مقابل توفير "حاجاتهما الإنسانية"، ك"مجموعتين سكانيتين"، "تحكمهما" "سلطتان فلسطينيتان" متنازعتان، لا سلطة فعلية لهما، ويستبيحهما الاحتلال على مدار الساعة استباحة شاملة، ويفرض عليهما التزامات سياسية واقتصادية وأمنية ثقيلة . ما يعني أن شعب فلسطين بتضحياته الجسيمة الغالية، قد أعاد الأمور إلى نصابها، وأثبت مرة أخرى أن وطنيته نبع لا ينضب، وأن جرائم الاحتلال لم تضعف عزيمته، بل زادته تشبثاً بحقوقه الوطنية الشرعية والمشروعة، وأن انقسامات نخبه القيادية المدمرة لم تنل من حسه الجماعي المرهف ووعيه الوطني الراسخ وذاكرته الجمعية المثقلة بجرائم حروب برابرة العصر الصهاينة التي لم تنقطع، ما يوجب تسريع خطى العمل على مثول هؤلاء الفاشيين أمام محكمة الجنايات الدولية، لينالوا عقابهم كمجرمي حرب، وعلى توسيع الحملات الدولية لمقاطعة كيانهم العنصري، وتعميق عزلته، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأكاديمياً .
على أية حال، حرب المجازر الصهيونية الوحشية لم تنته بعد، وقادة العدو الفاشيين لم يرتووا بعد من دماء أبناء الشعب الفلسطيني وأطفاله، والإدارة الأمريكية بنفوذها متعدد المجالات، إقليمياً ودولياً، لم تكف، ولن تكف، عن دعم الكيان الصهيوني وجرائمه، بذريعة "حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها"، وكأنها ليست من بدأ هذه الحرب الوحشية المبيتة، أو كأن عنجهية قادتها ليست المسؤولة عن إيصال عشرين عاماً من المفاوضات لتسوية الصراع إلى طريق مسدود، أو كأن فاشيتهم واستباحتهم الشاملة لكل ما هو فلسطيني ليست المسؤولة عن بلوغ غليان مرجل الشعب الفلسطيني درجة الانفجار، بل وكأن عداء الإدارات الأمريكية المتعاقبة للشعب الفلسطيني وحقوقه وقضيته الوطنية، ليس المسؤول عن تشجيع قادة العدو على ارتكاب جرائم الحرب الموصوفة وفظاعات الإبادة الجماعية الممنهجة والتطهير العرقي المخطط، وعن جعلِ كيانهم المارق والشاذ أصلاً إلى "دولة" فوق القانونين الدولي والإنساني .
المصدر: الخليج