أصبح للأمّة خليفة: الداعشيّة وجذورها
إعلان الخلافة من قبل «داعش» لم يكن كما أراده الخليفة. أصبح مادّة للتندّر والهزل والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي. والإطلالة التلفزيونيّة الأولى للخليفة لم تكن كما أُريد لها ان تكون: انشغلت الأمة بساعة معصمه، وصار الناس يراهنون على «ماركة» صنعها. بعد نحو قرن من الزمن، أصبح للمسلمين خليفة لكنه لم يُحمل على الجدّ. ما بال المسلمين لا يرحّبون بخليفتهم الجديد، وما بال غير المسلمين الكثر لا يحتفلون بفرض الجزية؟ وماذا لو تكاثر عدد الخلفاء، وقد سبق أن كان لأمّة المسلمين في زمان ثلاثة خلفاء لكل منهم خطيب مسجد يرفع الصلوات باسم الخليفة؟
لكن الخلافة الجديدة وُلدت متعثّرة. هي ليست بالدولة ولا بالخلافة لكن «الجزيرة» غيّرت وصف «داعش» إلى «تنظيم الدولة الإسلاميّة»، ربما تحضيراً بما يُعدّ له. لم يخطب الناس في الجوامع باسم الخليفة ولم تصكّ العملة باسمه بعد. لم يلقَ الخليفة الجديد الاحترام الذي كان يسعى إليه. والخلافة ليست محصورة بشخصه فهناك تنظيمات مختلفة متناحرة تسعى إلى الوصول للسلطة في أكثر من بلد عربي وإسلامي. ومنصب الخلافة لا تزيد صلاحيّته عن السلطات المطلقة التي يتمتع بها «أمير المؤمنين» في المغرب، أو الملك العصري (بنظر الغرب لأن لغته الإنكليزيّة تتفوّق على ما يُحفّظ من جمل عربيّة). ولماذا تصحّ السخرية من الخليفة البغدادي (ظلّ دفق المال السعودي والقطري على الأرض السوريّة) ولا تصحّ السخرية مِن مَن قرّرت عائلته قبل سنوات انه يجمع بين لقب الملك (الذي أسبغه عليه المُستعمر البريطاني) وبين لقب «خادم الحرميْن» (الذي لم يسبغه عليه الحَرَمان)؟ لكن «داعش» ظاهرة جديدة دخلت السجال العربي المُستجدّ، وباتت واحدة من عناوين حقبة أطلقَ عليها ذات يوم لقب «الربيع العربي».
يمكن تصنيف الكتابات الراهنة عن «داعش» إلى نوعيْن: النوع الأوّل يفيض في لوم الذات، على نسق «كلّنا داعش»، و«داعش حيّ فينا» و«هل في الأمّة إلا من دواعش» و«داعش تغزو العقول قبل القلوب» - أو العكس - و«داعش وصلت إلينا قبل أن تصل إلى الموصل». والنوع الثاني يبالغ في عزل إيديولوجيّة «داعش» على نسق «الإسلام براء من هذه الظواهر» و«ديننا لا يرى بذلك» و«ديننا سمِح» و«الداعشيّة غريبة عن ثقافتنا»، وما شابه.
كما أن الأديان والطوائف دخلت سوق السجال. فأدعياء الإسلام وعالميّة دعوته يردّون على خطر «داعش» بالتذكير بسماحة الإسلام وبـ«عقد عمر» وفذاذة التجربة في الأندلس (هل يريد هؤلاء استعادتها لتجديد التجربة) والتعبير عن الحنين إليها؟ فيما يردّ أدعياء المسيحيّة العرب (خصوصاً في المهاجر) بإعادة إنتاج الاستشراق المسيحي التقليدي وعدائه ضد الإسلام والمسلمين (وقد عبّر عنه خير تعبير وبصريح العبارة المطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس، جورج صليبا، الذي أرّخ للمشكلة بـ«ظهور الإسلام» - عاد المطران وزعم ان كلامه أسيء فهمه، لكن كيف يمكن زعم تشويه الكلام في عصر «يوتيوب»؟) وأدعياء سماحة الإسلامي التاريخيّة يوصون بأهل الكتاب خيراً ويعدون بتخفيض الجزية على من أظهر حسن السلوك، أما أدعياء الاستشراق والعداء الكنسي التاريخي فهم لا يستطيعون التهديد باستدعاء الغرب المسيحي لنجدتهم لأن ذلك الغرب بات خليل الوهابيّة الأعزّ. والغرب والعدوّ الإسرائيلي خير مَن يرحّب بالعداء ضد الإسلام والسجال بين الأديان عادة قديمة في الشرق لكنها تكنّ حالةً من التعايش وإن كان مشوباً بالتوتّر والنفاق والعداء. سمح المشرق بالسجال بين أديان «سُمح» لها ان تبقى، فيما مُنع السجال في شبه الجزيرة بعد أن مُنعت عنها الأديان، إلا الإسلام.
والتوفيقيّون من جماعة «الحوار بين الأديان» (الذين لا نساء بينهم بأمر «هيئة كبار العلماء») أو تجّار الحوار، يطلّون برأسهم ويدعون إلى صور بالألوان تجمع رجال الدين والقساوسة والرهبان. مؤتمر واحد أو اثنان يكفيان لإعلان الوئام التاريخي بين الإسلام والمسيحيّة، كما أن تجّار الصهيونيّة في الغرب نجحوا في طمس تاريخ معاداة الكنيسة لليهود واجترحوا المصطلح السياسي عن الحضارة اليهو-مسيحيّة.
ويبرع أدعياء الإسلام وأدعياء المسيحيّة في تبادل الإهانات وعبارات الودّ في الوقت نفسه. بعض كتّاب 14 آذار من «المسلمين» - مع ان مشروع 14 آذار هو أعلى مراحل العلمانيّة، أي الوهابيّة - يعبّرون عن أسمى آيات الودّ والتعاطف مع مسيحيّي الموصل ثم يحمّلون «مسيحيّي» 14 آذار - أي رفاقهم في حمل الشموع والبقدونس - المسؤوليّة عن تعاظم الخطر الداعشي الداهم بسبب عدم اتفاق قادة مسيحيّي لبنان على شخص الرئيس المقبل، وكأن انتخاب هذا الرئيس سيردع الخليفة وسيردّ جحافل «داعش». أما أدعياء الإسلام والمسيحيّة من الفريق السياسي المقابل فيستشهد بالصداقة التي باتت تجمع عناصر من حزب الله مع التيّار العوني. أوّاه.
أما الإيزيديّون فوقعوا خارج السجالات المتبادلة لأنهم لا يُحسبون على العرب (ككرد) ولا يُحسبون على الإسلام او المسيحيّة. والطائفة عانت تاريخيّاً من عداء مسيحي وإسلامي ديني (وعربي عرقي) بالرغم من محاولة لتأسيس تاريخ العداء لهم منذ ظهور «داعش»، لا قبل. لا حاجة لاستعادة تاريخ الطائفة وإساءة فهم تعاليمها من قبل كل جيرانها من الأديان والطوائف (ما ذنب الإيزيديّين إذا كانت عقيدتهم أصعب من الفصل السهل في الصراع بين الخير والشرّ والعوذ بالله الأحد في الإسلام والثالوث في المسيحيّة، وإذا كان قد اختلط الأمر على غيرهم بين الشيطان الوارد في ديانات «أهل الكتاب» وبين الملك طاووس، التائب؟) لكن السماحة ليست اختصاص دين دون آخر، أو ليس عدم التسامح اختصاص دين دون آخر، بل هو لازمة لكل الأديان. ومع ان الموضة الغربيّة تكمن هذا الأسبوع في إسباغ الحمد والثناء على «الإيزيديّين» فإن التزمّت ليس بعيداً منهم، هم أيضاً. ألم تُرجَم امرأة إيزيديّة عام 2007 لأنها اعتنقت الإسلام؟ ثم ما دخل الاستعمار الغربي يقحم نفسه في كل ما يتعلّق بالأقليّات في منطقتنا؟ ها هي «نيويورك تايمز» تروي عرضاً ان المشرّدين من الإيزيدين في جبل سنجار يتصلون على الهاتف الخيلوي باستمرار مع «مسؤولين أميركيّين»؟ كيف حصل المشرّدون على هواتف المسؤولين الأميركيّين، ولماذا لم تكن تلك الهواتف بحوزة مشرّدين من طوائف أخرى؟
تعلم حقيقة المنحدر العربي عندما تستعير ثقافات عربيّة أخرى (في سوريا والعراق تحديداً) من خطاب وطقوس الحروب الأهليّة اللبنانيّة. يكثر التحاب والعناق بين الطوائف وبين رجال دينها (متى نتكلّم عن «نساء الدين»؟) كلّما زادت حدّة الصراع الطائفي. مشروع التحديث والحداثة الذي يعوّل عليه كتّاب أمراء آل سعود لم يُتح له ان يقوم، قامت الدول العربيّة النفطيّة وبمشاركة الولايات المتحدة في إفشال كل نماذجه الحديثة في سوريا ومصر والعراق واليمن الجنوبي وأفغانستان وباكستان. واحدة من مفارقات الخطاب الثقافي العربي: ان دعاة الحداثة والتحديث منخرطون ومنخرطات في خدمة تلك الأنظمة التي حاربت مشاريع الحداثة والتحديث، حتى داخل الدين الإسلامي. لم يكن هناك مشروع تحديث وتطوير الدين يتفوّق على مشروع جمال عبد الناصر، أو حتى على العلمنة المتزمّتة التي أراد صلاح جديد ان يفرضها في سوريا. يفضّل الحداثويّون مشروع «الدولة المدنيّة» الذي اخترعه الإخوان المسلمون (لم يردع الليبراليّون العرب عن الإخوان إلا عندما صدر الأمر السعودي).يبرع أدعياء الإسلام والمسيحيّة في تبادل الإهانات وعبارات الودّ في الوقت نفسه
استفاق الغرب على الخطر الداعشي، وها هو أوباما يعود إلى حرب وصفها عام 2008 بـ«الحرب الغبيّة». تصدّق الأقليّات والأكثريّات الخطاب الأوبامي وتقارير مراكز الأبحاث الغربيّة عن «تدخّل إنساني» في العراق، وتقوم منظمات المجتمع المدني (المُموّلة بأكثرها من قبل دول الغرب) بالتناسق بعقد ورشات عمل وحلقات عن أبعاد وعواطف «التدخّل الإنساني» إيّاه. لكن أوباما يكون صريحاً في تصريحاته المُوجّهة للداخل الأميركي: هو اعترف في مقابلته مع توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» بأن دافعه في التدخّل في العراق لا علاقة به لا بالأكراد ولا بالإيزيديّين ولا بالمسيحيّين. هو خشي من تكرار نموذج «بنغازي» (عن الاعتداء على مقرّ للاستخبارات الأميركيّة هناك وقتل السفير الأميركي) خصوصاً أن الصحيفة ذكرت عرضاً ان «آلافاً» من الأميركيّين يقطنون مدينة أربيل، وأن هناك قوّة (مجهولة؟) في ما يُسمّى بـ«مركز العمليّات المشتركة» في إربيل. (في اليوم الذي تلى نشر الجريدة الخبر العرضي عن وجود الآلاف، عادت الجريدة في اليوم التالي لتقول إنهم مجرّد «مئات»). ماذا تفعل الآلاف المؤلّفة من الأميركيّين في بلد كان من المُفترض ان تكون قد انسحبت منه؟
إن إعلان الخليفة ليس جديداً. و«حزب التحرير» هو على وشك إعلان الخلافة واسم الخليفة منذ الخمسينيات. تقي الدين النبهاني أسّس الحزب وأطلق النفير لإنشاء الخلافة. مات من دون ان يُعلن خليفة على المسلمين. لكن الحديث عن «داعش» في الإعلام العربي يشوبه نفاق واضح، ومفهوم. هناك إفراط في تحليل إيديولوجيّة «داعش» على أنها غريبة عن الإسلام والمسلمين. هناك إفراط في فصلها عن الثفافة العربيّة، مثلما هناك إفراط عند البعض في الحديث عن «داعش» في كلّ منّا. ليست إيديولوجيّة «داعش» بجديدة. هي العقيدة الوهّابيّة عينها. وفات على وسائل الإعلام العربيّة نشر بيان داعش بعنوان «هدم الأضرحة والقباب» لأنها غير ملائمة سياسيّاً. تعترف المنظمة أنها تستلهم من محمد بن عبد الوهاب ومن إبن تيميّة.
هل هناك من جديد في إيديولوجيّة «داعش» ليس موجوداً في الوهابيّة من تكفير الغير (إسلاميّاً كان أم غير إسلاميّاً)؟ الإصرار على التزام تنفيذ العقاب بحسب تصنيفات وطرق من مخلفّات قرون بائدة والافتنان وبقطع الرؤوس ترهيباً للعامّة (يُراجع ما جاء عن لسان عبد العزيز آل سعود في رواية أمين الريحاني في كتاب «ملوك العرب») وتعريف الإسلام بطريقة تستثني الجميع باستثناء من يطيع من أبناء وبنات الطائفة المذكورة (والمنصورة) والتشدّد في قمع النساء والهوس بالحرام والحلال من الجنس وفنونه وحثّ الطاعة العمياء لوليّ الأمر وإعلاء شأن رجال الدين ورفض ما يُعتبر رجساً من عمل الشيطان (وفق تعريف الخليفة أو خادم الحرميْن) والانتماء إلى السفليّة الجهاديّة، كل ذلك مُشترك بين الداعشيّة وبين الوهّابية. كل هذه العناصر تكتمل في النظام السعودي الذي كان، في ظل حكم الملك فهد، أوّل من أدخل مصطلحات «الجهاد، في السياسة العربيّة، الذي أطلق أمميّة الوهّابية. كما يعتري التطبيق الداعشي والسعودي نفاقاً كبيراً كل هذا من سمات الحكم الديني (كان للبابوات أولاد عبر التاريخ). أما الخلاف الراهن بين الوهّابيّة وبين الداعشيّة فهم مثل الشقاق الصيني-السوفياتي في عصر الشيوعيّة.
لم يختلف بن لادن مع آل سعود إلا في شأن السياسة الخارجيّة، ولا يختلف البغدادي مع آل سعود إلا على السياسة الخارجيّة. لم يكن تسرّب وانتشار العقيدة الوهّابيّة حدثاً عفويّاً أو صحوة متأخرّة على «فكر» محمد بن عبد الوهاب (من يطالع كتابات عبد الوهاب يكتشف ان لا فكر لديه وأن ما يُسوّق على أنه «كتاب التوحيد» مثلاً إلا مجموعة أحاديث وتفاسير لها.) إن اجتماع المال النفطي مع العقيدة الوهّابيّة هو الذي روّج للفكر والممارسة المتطرّفة. لكن أميركا ليست بريئة: هي عمدت إلى عون آل سعود الجهادي في حربها ضد الشيوعيّة ولم تعترض على الإيدلوجيّة المتزمّتة أو على الممارسات الإجراميّة التي كان «المجاهدون» في أفغانستان يقومون بها في أفغانستان ضد السوفيات وضد التقدميّين هناك. لم يعترض احد في الغرب على وحشيّة «المجاهدين» عندما قطعوا عضو نجيب الله وخصيتيْه بحدّ السيف بعد أن علّقوه على عامود كهرباء. ذائقة الغرب ضد الوحشيّة انتقائيّة مثل كل سياساته.
تختلف التحليلات عن أسباب صعود «داعش» والمعروف واحد. الغرب كعادته ناهلاً من معين الاستشراق التقليدي يصرّ على الرجوع إلى زمان غابر، ويستعينون هنا - كما قال سعيد في «الاستشراق» - بنصوص دينيّة مقدّسة قديمة لأنها مُفضّلة على ثوابت وبراهين مُستقاة من الواقع المعاصر المُعاش. الهروب إلى التاريخ أفضل لمن يريد ان يتنصّل من مسؤوليّة دول الغرب. هذا مثل حكاية كتاب الجغرافي في جامعة «يو سي إل آي» جارد ديمند «الانهيار» الذي تناول فيه تاريخ «الجزيرة الشرقيّة» في تشيلي. قرّر صاحبكم ان أكل لحوم البشر والانحدار الذريع في عدد السكان كان بسبب التصحّر الذي لحق الجزيرة جراء الصراع بين القبائل والطبقات والحاجة إلى أشجار لنقل تماثيل الآلهة العملاقة. قرّر ان السبب في تقلّص مستوى العيش وعدد السكّان هو الإخلال بالنظام البيئي في الجزيرة. لكنه أغفل دور الاستعمار الأوروبي وموت عدد كبير من السكّان جراء الأمراض التي جلبها الأوروبي معه، كما جلب حيوانات أتلفت مزروعات الجزيرة. وعليه، يعزل الإعلام الغربي الأسباب المعاصرة والحديثة لنموّ ظاهرة «داعش»: هو مخلّفات تصدير الوهّابيّة في الحرب الباردة وبغطاء أميركا، كما أن انبعاث تلك العقيدة الظلاميّة حدث في ضوء الغزو الأميركي للعراق. إن أبا بكر البغدادي هو وليد الغزو الأميركي وسجونه وتعذيبه وتدميره أكثر مما هو نتاج لابن تيميّة وفتاواه.
الذين تساءلوا عن سبب إطلاق سراح شاكر العبسي من السجون السوريّة لا يتساءلون عن سبب إطلاق سراح أبي بكر البغدادي من سجون الاحتلال الأميركي في العراق. لكن حركة المعارضة السوريّة الموالية للنظاميْن القطري والسعودي فلها تفسير جاهز، إنه النظام السوري الذي ولّد «داعش». ما دليلها؟ تقول إن النظام لم يقصف مواقعها إلا لماماً. لكن عندما قصف النظام مواقعها في العراق وفي سوريا، هبّت أبواق الإعلام نفسها تلك ثائرة: إن النظام العلوي يقصف مواقع سنيّة. لكن من يعوّل على تحليلات هؤلاء؟ إنهم مشغولون مذهولون بحجم التعاطف مع غزة ويريدون ببلاهة ان يقتنوا تعاطفاً مماثلاً.
وهناك نظريّة أخرى سارية بين المراسلين والمراسلات الغربيّين في بيروت، وهي تلقى رواجاً في المراكز الصهيونيّة في العاصمة واشنطن. أن عدم تزويد المعارضة المعتدلة (أي عصابات الجيش الحرّ التي تخصّصت في السرقة والتشبيح والخطف الطائفي والارتزاق والتناحر) بالسلاح الفعّال هو الذي زخم حركة «داعش». لكن كيف الربط؟ هل ان إيديولوجيّة الجيش السوري الحر - على افتراض ان تسمية الألوية على أسماء أمراء وشيوخ النفط هي ايديولوجيّة - كانت ستجذب من جذبه «داعش» لو توفّر له سلاح أكثر؟ ومن طلع بنظريّة ان سيادة الأحزاب والعقائد تحصل متى حصل تسليح وتمويل لها. أنفقت أميركا الملايين على دعم أحزاب وتسليح ميليشيات في انحاء مختلفة من العالم العربي ولم تنجح في فرض هذه الحركات. لو أن التمويل يؤمّن الشعبيّة، لكان أحمد الأسعد هو رئيس مجلس النوّاب الحالي (لكنه حصل وفق موسوعة كمال فغالي الانتخابيّة على ما يوازي 1% من أصوات الشيعة في قرى الجنوب).
أما مراكز دراسة الإرهاب وكليّة «وست بوينت» فقد عثروا على دليل للحائرين في فهم ظاهرة البغدادي. إن العودة إلى كتاب أبو بكر الناجي «إدارة التوحّش» هو دليلهم ودليل الحائرين من محلّيلهم. كما كان محلّلو مكافحة الشيوعيّة في واشنطن يبحثون عن كتيّب واحد لا غير كي يرشدهم إلى الأهداف الشيوعيّة حول العالم، فإن رأيهم عقد حول ان «إدارة التوحّش» (هناك شكوك حول هويّة المؤلّف) هو الدليل على عقل وسلوك حركة «داعش» وان كل ما غير ذلك لا قيمة له. ولا يتعاطى خبراء واشنطن مع الحركات السياسيّة على انها متحرّكة، بل هي ثابتة (يرفض خبراء العاصمة الأميركيّة مثلاً ان يقبلوا فكرة ان حزب الله تحت قيادة صبحي الطفيلي - معبود إعلام آل سعود - هو غيره تحت قيادة حسن نصر الله). لكن الكتاب المذكور لا يرسم بالضرورة مسار حركة «داعش». في الكتاب يوصي مثلاً بتدمير مرافق النفط، فيما يحرص «داعش» على الحفاظ على تلك المرافق من أجل الاستيلاء على عائدات بيع النفط. لكن «داعش» لا يقوم بما يراه مناسباً للحفاظ على السلطة، مثل أي ميليشيا في أجواء حرب اهليّة او صراع إقليمي. أما مقولة ان عودة سعد الحريري ستأخذ بالسنة إلى سكة الاعتدال فهذه فرضيّة من طرائف إعلام الوهابيّة لأن تيّار سعد الحريري كان وبقوة مبنيّاً على التحريض المذهبي الطائفي المقيت قبل ذهاب حزب الله إلى سوريا وقبل موقعة 7 أيّار وقبل إسقاط حكومة سعد الحريري (فقط في لبنان يُعتبر إسقاط الحكومة عملاً غير ديمقراطيّ). إن العلاقة بين تيّارات السعوديّة المعتدلة أو «المدنيّة» وبين التيّارات الجهاديّة المقاتلة هي علاقة بين تيّارات من ضمن المنظومة نفسها التي تدخل فيها أيضاً تيّارات السلفيّة القطريّة (لكن الراعيّيْن الإقليميّيْن وهّابيّان، وهذا ليس صدفة).
هناك خطر وهّابي يعمّ المنطقة العربيّة، وتعزّز هذا الخطر في عهد الملك فهد عندما قرّر الأخير تسخير الدين برمّته لمصلحة مواجهة أميركا للاتحاد السوفياتي. والدين في عرف آل سعود هو الوهّابيّة فقط، أي تلك الظاهرة المتطرّفة التي نمت على هامش الدين كطفيليّة تعزّزت من غذاء المال النفطي العربي ومن الدعم العسكري الأميركي. تلقّحت الوهابيّة بمال النفط والسلاح الغربي في آونة واحدة، لأنها كانت حليفاً ملائماً لأميركا في الحرب الباردة.
مَن يقول إن الداعشيّة هي إفراز من مجتمعنا يتغاضى عن المُسبّبات المباشرة لتلك الظواهر. أغدقت حكومات الغرب وأنظمة النفط المساعدات والسلاح على حركات متطرّفة في سوريا (كما في أفغانستان في الماضي) وستعاني المنطقة لعقود جراء هذا السخاء العربي - الغربي. كما أن النظام الإيراني أغدق منذ الثمانينيات المساعدات والسلاح على حركات دينيّة مُتطرّفة وبعضها حارب العدوّ الإسرائيلي والمجتمع (مثل حزب الله في ظل قيادة صبحي الطفيلي) لكن حزب الله تخلّى عن محاربة المُجتمع وعن حروب الفضيلة، التي تتفرّغ لها الحركات السلفيّة التي لا تعير اهتماماً لمحاربة العدوّ الإسرائيلي وتختلق شتّى الأعذار لتسويغ حصر جهادها بالمجتمعات الإسلاميّة فقط. لكن العلمانيّين العرب (المُفترضين) المتفيّئين بمظلّة رعاية أنظمة الخليج لا يعترضون على الحركات الدينيّة إلا إذا حاربت إسرائيل، أو إذا إعترض عليها النظام السعودي، بناء على اعتراض آمر من الحكومة الأميركيّة.
ليس «داعش» آخر منتوجات التحالف الأميركي - العربي النفطي بل هو واحد من سلسلة. والغرب لا يعي مخاطر سياساته إلا بعد ان تصل إنعكاساتها عليه، وعندها يلوم العرب والإسلام، لا نفسه.
المصدر: الأخبار