طريقة وحيدة للتفاوض مع «إسرائيل»
هدنة الـ24 ساعة انهارت، وكان ذلك متوقعاً في ضوء فشل الضغط على الوفد الفلسطيني للتنازل عن مطالب المقاومة الفلسطينية، وهي مطالب الشعب الفلسطيني، لقبول وقف للنار طويل أو «هدنة طويلة».
ليس هناك من يجهل أن لـ"إسرائيل" عقيدة سياسية وحيدة في التعامل مع خصومها، وأحياناً تستعملها مع أقرب أصدقائها وأخلص حلفائها، هي في جوهرها سياسة أمنية، تعلنها في كل المناسبات، وتلخصها في عبارة شهيرة تتردد دائماً على ألسنة قادتها السياسيين قبل قادتها العسكريين: "ما لا يؤخذ بالقوة، يؤخذ بمزيد من القوة" .
فمع خصومها، تجد هذه العقيدة دائماً سبيلها إلى التطبيق عبر الوسائل العسكرية، ومع أصدقائها وحلفائها تأخذ سبل الضغط والتشهير، وشراء الذمم والتجسس، (وكلها أشكال للقوة)! و"إسرائيل" لا تعرف، ولا تعترف بالمفاوضات طريقة في التعامل إلا عندما تعجز كل أشكال القوة تلك، العسكرية وشبه العسكرية، عن تحقيق الأهداف التي تريد . وعندما تضطرها الظروف للتظاهر بقبول أسلوب المفاوضات، تلجأ إلى التسويف والمماطلة والتحايل، والتلاعب بالمفاهيم والمصطلحات، وكل المتعلقات بموضوعات التفاوض، آملة دائماً أن تحقق من خلال ذلك ما عجزت عن تحقيقه بالقوة وأشكالها .
في الحرب الأخيرة على غزة، هناك شبه إجماع "إسرائيلي" ودولي على أن العملية فشلت، بل وسقط زعم "الردع "الإسرائيلي"، وتعرض الجيش "الذي لا يقهر" للمهانة والتحقير، وعجزت "القبة الحديدية" والتقنية المتطورة عن وقف مفاجآت المقاومة الفلسطينية، وظهرت "الأنفاق" كسلاح أكثر تطوراً وفعالية من "الميركافا" وال"إف 16"! وفشلت الاستخبارات في معرفة شيء عن المقاومة واستعداداتها للمواجهة . وفي عبارة مختصرة، سجلت وقائع هذه الحرب انحداراً جديداً وجدياً لأداء القوة "الإسرائيلية" الشاملة . فكيف يمكن أن تقبل الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريح الكيان العدواني وقفاً للنار يعكس وقائع الحرب ولو جزئيا؟
إنه بفضل ما أفرزه الواقع الميداني من حقائق، اضطرت "إسرائيل" للتظاهر بقبول الدخول في المفاوضات من خلال "مبادرة" لم تأخذ تلك الحقائق في الاعتبار، أرادت منها تجريب احتمالات التوصل إلى اتفاق في أحسن تطبيقاته يعيد الأوضاع في القطاع إلى نقطة الصفر، كما كانت في نهاية الحرب الثانية العام ،2012 وإهمال كل الفوارق! وعندما انتهت الهدنة الثانية، وبدأت الجهود تبذل للتوصل إلى الهدنة الثالثة (هدنة الخمسة أيام)، وكان واضحاً ثبات الموقف الفلسطيني، صار لا بد من إفشال المفاوضات . ولم يكن صعباً إيجاد، أو اصطناع المبررات، وكان أهم ما صرح به بنيامين نتنياهو قوله: "إسرائيل" لا تفاوض تحت النار"!
وبصرف النظر عن التصريحات الفلسطينية، التي لم تكن تبدو متفقة في التفاصيل، وإن اتفقت في العموميات، بقي ما قاله محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، مصدراً للاطمئنان على الموقف الفلسطيني الذي كان ولا يزال على فصائل المقاومة في غزة أن تتمسك به، وقد ظلت، وهو الموقف الذي قام على أساس إما أن تستجيب "إسرائيل" لكل المطالب الفلسطينية، أو أن تذهب إلى حرب استنزاف طويلة . والحقيقة أن هذا الموقف دل على أن الفلسطينيين وعوا حقيقة الألاعيب "الإسرائيلية"، وأن مقاومتهم بلغت الرشد واستعدت لمواجهتها، وأن الزمان الذي كانت فيه "إسرائيل" وأنصارها يمكن أن يحققوا بالسياسة والمفاوضات ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب قد ولى .
لقد استأنفت الطائرات "الإسرائيلية" غاراتها، وأعلنت بذلك إسقاط هدنة ال"24 ساعة" قبل موعد نهايتها المقرر . وكما تبين، فإنها فعلت ذلك بهدف اغتيال قائد كتائب القسام محمد الضيف آملة أن تحقق ما حققته عندما اغتالت الشهيد أحمد الجعبري في بداية حربها الثانية على غزة، ما دل على أنه لم يعد في جعبة عباقرة الحرب "الإسرائيليين" جديد . إن أصحاب الرأي في الكيان العدواني يجمعون على أن كل ما يشغل بال بنيامين نتنياهو هو مستقبله السياسي، وقالوا إنه بات في يدي المقاومة الفلسطينية، وأي نجاح في التوصل إلى "هدنة طويلة" كان يعني حصول المقاومة على الجزء الأكبر والأهم من مطالبها، وهو ما يعني بالنسبة إلى نتنياهو نهاية مستقبله السياسي . لذلك كان لا بد للهدنة أن تسقط قبل موعدها، وللمفاوضات الجارية أن تنتهي بالفشل، وذلك بالعودة إلى الغارات الجوية .
إن العقلية "الإسرائيلية" لا تختلف عن العقلية الأمريكية، بل هي أسوأ وأكثر فاشية لاعتبارات عدة . وفي الحرب الأمريكية على فيتنام في أوائل سبعينات القرن الماضي، عرضت الولايات المتحدة الأمريكية المفاوضات على فيتنام الديمقراطية أكثر من مرة، واستجابت الأخيرة لها أكثر من مرة لكنها فاوضتها في كل المرات "تحت النار"، بما في ذلك المرة الأخيرة التي سقطت أثناءها سايغون قبل أن تنتهي المفاوضات، وعندما هرب الأمريكيون بالمروحيات .
نعرف أن الظروف في غزة العام 2014 غير الظروف في هوشي منه العام ،1972 لكننا نعرف أيضاً أن جوهر المقاربة يبقى صحيحاً، وأن ليس من طريق آخر يمكن سلوكه مع من لا يؤمن بغير القوة، إلا القوة . وهذا ما تأكد لنا أكثر من مرة، في حروب "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني، خصوصاً في الحرب الثالثة على غزة .
لقد أصبح واضحاً للمقاومة الفلسطينية، وللفلسطينيين عموماً، أن حرب الاستنزاف هي الطريق الأجدى، وأن "المفاوضات تحت النار" هي الطريقة الوحيدة الأضمن للتعامل مع هذا العدو إذا أريد أن تحقق المفاوضات وقف العدوان على غزة ورفع الحصار عنها، وكذلك لاحقاً إنهاء الاحتلال .
المصدر: الخليج