العدو يسابق مساري التهدئة بالغارات
كثف العدو الإسرائيلي من غاراته الجوية على أنحاء مختلفة في قطاع غزة، في محاولة لكسب زخم جراء نجاحه في اغتيال ثلاثة من قادة الجناح العسكري لـ«كتائب القسام»، وفي محاولة لاستباق خطوات سياسية يجري التمهيد لها، إقليميا ودوليا.
وفي المقابل، فإن المقاومة الفلسطينية شددت من هجماتها الصاروخية على أهداف إسرائيلية، من بئر السبع ونتيفوت جنوبا إلى ما بعد تل أبيب شمالا، في مسعى لإثبات أن فقدان قيادات لا يفت في عضدها، ولا يضعف إرادتها. وبدا واضحا يوم أمس أن سباقا يجري بين مسارين، أحدهما للتهدئة في القاهرة والآخر لإيجاد حل دولي في نيويورك، من دون أن يتضح حتى الآن أيهما الأقرب إلى التحقق.
وواصلت الطائرات الإسرائيلية غاراتها على مناطق مختلفة في كل أنحاء القطاع، من بيت حانون شمالا إلى رفح جنوبا، في مسعى واضح لرفع منسوب الدم الفلسطيني في معادلة الحرب، لإرضاء غرائز الإسرائيليين التواقين إلى الثأر. وقد ركزت الطائرات الإسرائيلية عموما على البيوت والأماكن السكنية، بقصد الإيهام بأنها تلاحق مقاومين وبغرض إخراج المقاومة عن توازنها. وقالت محافل إسرائيلية إن الضربات الجوية ترمي إلى تكبيد المقاومة عموما، و«كتائب القسام» خصوصا، أكبر قدر ممكن من الخسائر لردعها عن مواصلة حرب الاستنزاف. وادعت محافل أخرى أن نجاحات إسرائيل الأخيرة في الاغتيالات أبقت «كتائب القسام» من غير قيادة.
ويبدو أن إسرائيل تكرر النغمة ذاتها التي بدأتها مع بداية الحرب على غزة، والهادفة للإيحاء بأن المقاومة على وشك الاستسلام، وأن مساعي تدجينها تجري على قدم وساق. غير أن استمرار المقاومة في إطلاق الصواريخ بوتيرة عالية، وبمنهجية قتالية، تحاول إبقاء أوسع قدر من الإسرائيليين في مرمى النيران وضمن دائرة القلق، يدحض الادعاء الإسرائيلي. وتحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن عدد «استثنائي» من الإصابات أمس في أماكن مختلفة في الجنوب جراء الصواريخ وقذائف الهاون من قطاع غزة. ووقعت إصابات في بئر السبع وتل أبيب وأسدود فضلا عن محيط عسقلان. وحتى الساعة السابعة من مساء أمس كانت المقاومة قد أطلقت أكثر من 120 صاروخا على مناطق مختلفة، وحققت إصابات في العديد منها. وليس صدفة أن تظاهرات تجري لسكان مستوطنات غلاف غزة أمام مقر رئاسة الحكومة الإسرائيلية في القدس المحتلة تطالب بحل الأزمة، سلماً أو حرباً.
وتراقب إسرائيل بقلق الأنباء حول مبادرة أوروبية في الأمم المتحدة يقال إنها تحظى بدعم أميركي. ونقلت وكالات الأنباء عن ديبلوماسي أميركي قوله إن واشنطن لا تخوض منافسة «ولكننا نشارك أعضاء مجلس الأمن الآخرين المخاوف من عودة الأعمال العدائية في أعقاب انتهاك وقف النار». وأضاف أن المجلس سبق «وطالب الجانبين بمنع تدهور الوضع واستئناف المفاوضات».
وتحدث المراسل السياسي للقناة العاشرة عن إيمان إسرائيل بأن الإدارة الأميركية هي المبادرة لحل سياسي لوقف القتال، وأنهم يؤيدون فعل ذلك بقرار من مجلس الأمن. ونقل عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن إسرائيل تفضل المسار المصري لأسباب مختلفة، بينها الرغبة في تعزيز مكانة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وأضافوا أن المصلحة الإسرائيلية تكمن في رؤية مصر تحتل من جديد مكانا قويا ومؤثرا في الشرق الأوسط.
وترى حكومة اليمين في إسرائيل في كل ربط لترتيبات وقف النار وفك الحصار عن غزة بالمفاوضات حول التسوية النهائية مع الفلسطينيين، خصوصا على أساس حدود العام 1967، ناراً يجب الابتعاد عنها. وربما لهذا السبب عاد المسؤولون الإسرائيليون للحديث بقوة عن العودة إلى المفاوضات في القاهرة. ويعتقد معلقون إسرائيليون أنه يصعب على حكومة بنيامين نتنياهو العودة إلى المفاوضات في القاهرة في ظل استمرار إطلاق النار، ولذلك لا يستبعدون أن تقبل حكومة نتنياهو بإعلان وقف للنار يأتي من جانب أي جهة لتسهيل العودة إلى طاولة المفاوضات.
وأشارت مصادر إسرائيلية مختلفة إلى أن حكومة نتنياهو، خصوصا الثلاثي نتنياهو ووزير الدفاع موشي يعلون ورئيس الأركان بني غانتس، يتابعون عن كثب جولات الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الدوحة والقاهرة. وقالت هذه المصادر إنه «إذا توقف إطلاق النار، فليس ثمة ما يحول دون إعطاء فرصة جديدة للمبادرة المصرية». وتؤمن إسرائيل بأن عباس يسعى لبلورة وقف لإطلاق النار وفق المبادرة المصرية، وأن لقاءاته اليوم مع السيسي قد تفتح كوة في الحائط المسدود.
ويرى خبراء إسرائيليون أن نتنياهو اليوم أقدر على تمرير الخطة المصرية مما كان قبل محاولة اغتيال القائد العام لـ«كتائب القسام» محمد الضيف وقبل اغتيال قادة «حماس» الثلاثة في رفح. فالدعوات لإعادة احتلال قطاع غزة والحسم العسكري صارت تضعف، ليس فقط بسبب الثمن المتوقع لها ميدانيا، بل أيضا بسبب السعي الدولي لفرض حلول قد لا تكون في مصلحة إسرائيل.
وظاهريا لا تبدي إسرائيل اهتماما بمساعي عباس، وتحاول تفسير تصريحات المسؤولين الفلسطينيين عن تمسكهم بالمسار المصري على أنه نجاح لسياستها المتشددة. لكن معلقين كثيرين يقولون إن المسار المصري قد لا يقود إلى أي مكان، وأن الأمور في النهاية ستعود إلى الحلبة الدولية. وهناك حتى في إسرائيل من يعتقد أن العودة الى المسار المصري ليس سوى محاولة أخيرة لمنع الخطوة الدولية. ويشير معلقون إسرائيليون إلى أن القرار في مجلس الأمن إذا نضج فإنه لن يتخذ قبل أسبوع من الآن.
وربما لهذا السبب، ورغم ما تبديه إسرائيل من امتعاض من المبادرة الأوروبية، إلا أن ديبلوماسييها يحاولون عبر العلاقات مع الدول الأوروبية عموما وعبر العلاقة الخاصة مع أميركا إخراج الشوك من هذه المبادرة ومحاولة تعديلها جوهرياً. ويقوم الجهد الإسرائيلي على أساس وجوب رفض الربط بين الاتفاق بشأن غزة وعودة المفاوضات حول التسوية النهائية. وإذا كان هذا غير ممكن، فمن المهم إزالة أي ربط بين المفاوضات حول التسوية وحدود العام 1967، وكذلك السعي لإبراز وجوب تجريد غزة من السلاح وليس الاكتفاء بمراقبة تمنع تعاظم قوة «حماس».
وأعلن عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل عزمهما على الطلب من الأمم المتحدة إصدار قرار «يحدد سقفا زمنيا لإنهاء الاحتلال». ونقلت وكالة الأنباء القطرية-»قنا» انه تم الاتفاق خلال اللقاء، الذي جمع عباس ومشعل مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، على «التحرك للحصول على قرار أممي لتحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطين المستقلة وفق حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية».
وربما على خلفية الاتصالات الديبلوماسية الحثيثة في القاهرة ونيويورك، عمد يعلون إلى توجيه الجيش بالتصعيد على طريقة «الطحن والتقطيع» وليس الاستنزاف. وكان نتنياهو قد أعلن في اليومين الأخيرين، أن إسرائيل لن تنجر إلى حرب استنزاف، وأنها مقابل الاستنزاف ستعمد إلى انتهاج أسلوب «الطحن والتقطيع».
ورغم أن الغالبية الساحقة من شهداء اليومين الأخيرين في عمليات «الطحن والتقطيع» كانوا من المدنيين، إلا أن الجيش الإسرائيلي يزعم أنه قتل «أكثر من 60 من نشطاء الإرهاب في اغتيالات تمت بالتعاون بين الشاباك وقيادة الجبهة الجنوبية وشعبة الاستخبارات». ويقول الجيش الإسرائيلي إنه لم يعد يعمل وفق ساعة موقوتة، بل «يواصل الضرب بكل قوة من الجو لتدمير أكبر عدد ممكن من الأهداف والمخربين».
لكن ضربات المقاومة واستمرار القصف الصاروخي بوتيرة عالية دفعا نتنياهو إلى الإعلان عن أن «حماس سوف تدفع ثمنا باهظا على عملها الإرهابي الصعب هذا (مقتل طفل إسرائيلي قرب غزة). والجيش الإسرائيلي والشاباك سيزيدان من نشاطهما ضد حماس ومنظمات الإرهاب الأخرى في غزة إلى أن تتحقق أهداف عملية الجرف الصامد». تجدر الإشارة إلى أن كلمات نتنياهو هذه هي تكرار لكلماته التي قالها في اليوم الأول من العدوان المتواصل منذ سبعة أسابيع.
المصدر: السفير