العرب يرضون عقاب غزة باليد الإسرائيلية
إن كانت هذه حرباً إسرائيلية فقط، فهي الآن في مرحلتها الأخيرة، أما إن استمرت أكثر من ذلك ووصلت إلى حدود العملية البرية، فهي عربية إسرائيلية بامتياز، ولها أهداف أعمق مما كانت عليه أهداف الماضي. هذا ما يظهر جلياً في ظل الصمت العربي الذي لم يستدع حالة من الاجتماعات التي كانت معتادة في ما سلف.
بعبارة أخرى، إذا كانت الحرب برضى العرب، فذلك يعني أن تعيد إسرائيل احتلال قطاع غزة، بذريعة عربية هي القضاء على «حماس». التحليل الآتي يعرض افتراضين: الأول، أنها حرب إسرائيلية لأهداف إسرائيلية بحتة، والثاني، أنها حرب إسرائيلية مزدوجة الأهداف إسرائيلياً وعربياً.
تعتمد الفرضية الأولى على ما هو ظاهر بوضوح في رغبة حكومة بنيامين نتنياهو في تحسين صورته داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي بات ميله إلى التيارات العنصرية اليمينية يزداد في العقود الأخيرة، وذلك استعداداً لدورة انتخابية قادمة. وعلى هذا يمكن القول إن نتنياهو استنزف فوائد كثيرة من اختفاء ومقتل المستوطنين الثلاثة في الخليل، ليشن هجومه على غزة، على أنها هي معقل «الإرهاب» وفيها قيادته.
لقد كان من المتوقع في عرف السياسة، أن يشن نتنياهو هجومه على الضفة المحتلة، ففيها جرى الحادث. لكن ما منع من ذلك، هو التهديد الحقيقي بسقوط السلطة في رام الله، في وقت أحرجت فيه هذه السلطة موقع إسرائيل في المحافل الدولية. وسقوط السلطة هنا معناه العودة إلى مربع ما قبل أوسلو، ما يؤدي إلى عودة الاحتلال المكشوف، وما يتبع ذلك من ضرائب سياسية كبيرة، مع أن بقاءها لا يمنع تنفيذ المخطط الاستيطاني كاملاً.
والحق أن غزة قد كفت منذ مدة عن أداء دور كيس القطن الذي يدرب به الملاكم قبضته، من يوم أن بدأت صواريخها تدك تجمعات الاحتلال السكانية الكثيفة، إلى درجة بات معها الشارع العبري متخوفاً من هذا التطور السريع في قدرة الرد من غزة. لقد تعودت إسرائيل أن تضرب متى شاءت من دون توقع الرد. وهذه الصواريخ تغير علاقات المعادلة، على الأقل انتخابياً. من هنا كان لا بد من استعادة قواعد اللعبة القديمة، وفيها إعلان أن هدف الحرب الوصول إلى منع إطلاق الصواريخ.
للتذكير، إن إسرائيل خرجت من غزة لترتاح، لكنها تكتشف اليوم أنها لم تعد مرتاحة، بل تحاول أن تبحث عن راحة مجانية بتكريس معادلة (هدوء مقابل هدوء). لكن غزة لا تريد الهدوء مع هذا الحصار الإسرائيلي والعربي المستمر. هي تريد تغيير قواعد اللعبة، والصواريخ تهدف إلى التذكير الدائم بالحصار والاحتلال واستمرار احتجاز الأسرى دون أي أفق لتحريرهم بغير الأسر والتبادل. وهذا ما قرأه نتنياهو في قضية المستوطنين الثلاثة، وتزايد قوة الردع الفلسطيني في غزة. عند هذا الحد تكون هذه الحرب لأهداف إسرائيلية بحتة.
أما عن الفرضية الثانية التي تشترك فيها الأهداف الإسرائيلية والعربية، فيجب التنبيه إلى أن المقصود هو النظام العربي الرسمي، لا الشعوب العربية المنقسمة بين مضلل ومقهور، وهو النظام العربي الذي ملّ القضية الفلسطينية منذ زمن. ومنذ ما جرى عام 1967 نفض يده من المسؤولية عن فلسطين بمساعدة فلسطينية للأسف، حين ألقى ثقل التحرير على الفلسطينيين في لعبة سياسية ماكرة تقرر بموجبها أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
وسرعان ما اكتشف الفلسطينيون المخدوعون أنهم ابتلعوا طعماً ساماً، ومع أن المنظمة لا تزال تحاول ابتلاع هذه الجرعة بصمت، فإن «حماس»، التي لا تقبل شرعية المنظمة، ترفض تجرع هذه الوجبة، وتحاول حلماً قديماً بإعادة الدواء إلى الصيدلي الذي صنعه، كذلك تحاول أن تعيد إلقاء كرة القضية الملتهبة في حجر أصحابها الذين صنعوها (النظام العربي)، وهذا ما يقلق الأخير الذي أثقل بإقليميته وفساده وعجزه وخيانات كثيرين من أركانه.
إضافة إلى كل ما سبق، إن الطريقة المأساوية التي أدارت بها حماس شؤون غزة، سببت خسارتها الداعم المصري، وهو من كان يدعمها على استحياء، وزادت الخسارة حين أعلنت انحيازها إلى جماعة الإخوان المسلمين في نضالها ضد الثورة المصرية الأخيرة، وما قيل عن تدخلها المسيء في الشأن المصري الداخلي لحسابات غير فلسطينية في الأصل.
هذا التدخل كان القشة التي قصمت ظهر البعير، ومنحت القيادة المصرية الجديدة العذر في تنصلها من هذا الدعم الضعيف، وصولاً إلى مرحلة العداء التام. فقد كانت الهجومات الإسرائيلية على غزة في السابق، تقابل باستنكار مصري خجول، وذلك مثلاً على عهد مبارك. أما الآن فلا داعي للخجل، مع خوف القيادة المصرية الجديدة من تحول غزة إلى بؤرة إخوانية تحمي في دفيئتها عناصر وخطط الجماعة في سيناء على الحدود بمساعدة الأنفاق. كذلك توصلت الإدارة المصرية الجديدة إلى قناعة أكيدة مفادها أن أمن سيناء مهدد مع حكم «حماس» في القطاع، وعليه، ربما رأت أن لحظة الخلاص من الحركة قد حانت، بقوة إسرائيلية تقضي على «الإرهاب» في «موطن الإرهاب» الذي تراه القاهرة في غزة.
لا يهم هنا ما تجادل به حماس، ولا يهم إنكارها، وذلك أمام ما تراه المؤسسة الاستخبارية المصرية من «حقائق». من هنا، يلاحظ كيف صمتت مصر عن مجرد الاستنكار، الأمر الذي يعزز الشكوك في أنها ضالعة في الموافقة على الهجوم. ومثل ذلك يمكن التقاطه في الموقف السعودي الذي أعلن منذ اليوم الأول للثورة المصرية دعمه لها، رغبة في استعادة دور قوي للقاهرة في مواجهة «الخطر الإيراني القريب».
ما يعزز صحة هذه الفرضية، ما نراه من غياب دعوات إلى دعم غزة خلال الحرب، من الشيوخ في كل العالم العربي الذين كانوا دوماً سباقين إلى الدعم. هؤلاء لا شك في أنهم يتبعون قيادات بلادهم، إضافة إلى التقاعس الواضح عن الدعوة إلى اجتماع لجامعة الدول العربية ضد العدوان كما كان يحدث في المرات السابقة.
في النتيجة، لقد أخطأت «حماس» في تقدير خطورة ما فعلته مع مصر، وها هي الأخيرة تعاقبها، لكنها للأسف تعاقب غزة كلها مع «حماس»، وربما أكثر من الحركة نفسها. لكن النظام العربي أخطأ في معاقبة فلسطين بذريعة «حماس»، ما يستدعي الفرضية القائلة إن هذا النظام كله موافق ومؤيد لهذه الحرب على غزة.
المصدر: الأخبار