فلسطين: أبعد من الرثاء.. أقرب إلى النصر!
تكشف المواجهات التي باتت تشهدها معظم أراضي فلسطين المحتلة وجهاً آخراً لحقيقة ما يجري فيها، فإن كانت أعداد الشهداء الفلسطينيين ترتفع يومياً، لا سيما في قطاع غزة المحاصر، إلا أنه، ومن جهة أخرى فالأداء العام لفصائل المقاومة الفلسطينية يوشي بتقدمٍ واسع أحرزته تلك الفصائل خلال السنوات القليلة الماضية، سواءً على مستوى التكنيك العسكري أو على مستوى الإمكانات اللوجستية اللازمة، من صواريخ مطوَّرة ذاتياً وغيرها من المعدِّات القتالية. ومع دخول أراضي الـ48 على خط المواجهات، بدا العدو مرتبكاً تائهاً يتلظى بين نار الصواريخ المتساقطة على قواته ومستعمراته انطلاقاً من القطاع المحاصر، والفشل الذريع لمنظومة «القبة الحديدية» من جهة، وبين موجة الاحتجاجات والتحركات التي أطلقها فلسطينيو الثمانية والأربعين من جهة أخرى.
إعداد: قاسيون
فيما يلي، تسعى «قاسيون» للدخول في عمق الحدث الفلسطيني، في عمق الإرهاصات الملموسة لنمو بذرة الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، والتي يشي تطور الأحداث داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة على أنها ليست بالبعيدة. وبناءً على ذلك، نفرد في هذا التقرير رصداً لأهم التحولات النوعية التي طالت بنية المقاومة الفلسطينية وفصائلها، ونسلِّط الضوء على عدة مؤشرات تؤكد على تخبط حكومة الكيان الغاصب وضيق خياراتها، لنعرج إلى صورة الأحداث داخل أراضي الـ48، وردات الفعل السياسية على المستوى الداخلي الفلسطيني والإقليمي والدولي.
كمياً ونوعياً: إلى ما بعد تل أبيب
سمحت الصواريخ النوعية التي امتلكتها المقاومة الفلسطينية، كصاروخ «فجر5» الإيراني الصنع وصاروخ «M75» محلي الصنع، بفتح الباب واسعاً أمام فصائل المقاومة لتطور ذاتياً إمكاناتها الصاروخية، سواءً عبر الحشوة الدافعة والكتلة المتفجرة، أم عبر تطوير منصات الإطلاق الثابتة والمتحركة. وكنتيجة لهذا التطور، لم تعد حدود الصاروخ المنطلق من القطاع محكومة بالمستوطنات القريبة من غزة، مثل «سديروت» وغيرها، بل بات بإمكانها أن تطال مدناً ومستعمرات ضمن دائرة استهداف يتجاوز مداها 180 كيلومتر، لتصبح حيفا وتل أبيب وعسقلان وبئر السبع، بما تحتويه من بنى ومراكز ومعسكرات كان محرماً على الصاروخ الفلسطيني الوصول إليها، تحت مطال المقاوم الفلسطيني المرابط في غزة.
أما كمياً، فيعترف أحد ضباط جيش العدو، في حديثٍ لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية، أن: «عدد الصواريخ بعيدة المدى لدى الفلسطينيون أكثر بكثير من ذلك الذي كان بحوزتهما خلال عملية عمود السحاب». ليليه اعتراف من جيش العدو بأن عدد الصواريخ التي سقطت على «إسرائيل» تجاوز الـ 500 صاروخ منذ 8/7/2014.
لم يكن العدو ليستفيق من صدمته بوصول صاروخ «F85» إلى عمق مدينة حيفا، حتى انهمرت صواريخ «R160» على مستعمرة «زخرون يعقوب» وشاطئ الكرمل في المدينة، وصواريخ «M75» على تل أبيب، لتؤكد للعدو أن تهديدات المقاومة بالوصول إلى حيفا وتل أبيب لم تكن عبثية. وكل ذلك، كان أهون على قوات العدو وحكومته من الصفعة التي تلقاها عندما نجحت المقاومة الفلسطينية بإطلاق ثلاثة صواريخ، سقط اثنان منها بالقرب من مفاعل «ديمونة» النووي الصهيوني، في حين لم تفلح منظومة «القبة الحديدية» إلا بإفشال صاروخ واحد فقط.
ولم يعد العدو قادراً على خوض عملياته العسكرية مؤمناً مطاراته ومعسكراته بعيداً عن مرمى المقاومين، ففيما تكفَّلت «كتائب القسام» بضرب مطار «نيفاتيم» العسكري بصاروخي «M75»، أعلنت «سرايا القدس» استهدافها لمطار اللد «بون غوريون» بصاروخين من طراز «براق 70»، في وقتٍ نجحت فيه كتائب «أبو علي مصطفى» باستهداف معسكر «زكيم» الصهيوني بصاروخين.
المحتل مرتبك... عسكرياً وإعلامياً
جميع المؤشرات تفيد بأن جيش العدو لم يكن يتوقع حجم الرد الفلسطيني الكثيف، وهو ما انعكس في تخلف التحصينات التي جهزها العدو بمحاولة منه لتأمين مستوطنيه ومنشآته من تبعات رد المقاومة الفلسطينية، وهو ما كشفت عنه القناة العبرية الثانية عندما أعلنت أن صفارات الإنذار دوت متأخرة في الخضيرة وحيفا: «الصواريخ سقطت، ولم تستطع القبة اعتراض أياً منها لعدم تفعيل صفارات الإنذار».
وخوفاً من صواريخ المقاومة، أصدرت حكومة الكيان الغاصب سلسلة قرارات قضت إما بتغيير مسار العديد من رحلات الطيران، كتغيير مسار طائراته لتمر فوق الضفة الغربية بعد نجاح المقاومة الفلسطينية بإسقاط إحدى طائراته الاستطلاعية فوق قطاع غزة، وإما بإيقاف حركة الطيران في بعض المطارات بشكلٍ كامل، كمطار «دوب» الصهيوني ومطار «سدي دوف» في تل أبيب.
ولعل المعادلة التي تقلق حكومة العدو، باتت تتعلق بشقين رئيسيين. أولهما، هو القلق من الفشل الذريع الذي أصيبت به منظومة «القبة الحديدية» والتي كلفت العدو مبالغ طائلة، حيث تشير إحدى إحصاءات الصحافة الصهيونية إلى أن أقصى نسبة من الصواريخ التي تمكنت المنظومة من التصدي لها بلغت 9.9% فقط، استناداً إلى إحدى الصليات التي ضربت المقاومة فيها 110 صواريخ، سقط 10 منها في أراضي قاحلة، و10 فقط أفشلتها المنظومة، بينما نجح ثمانون صاروخ بإصابة أهداف مأهولة، ليصل الإحصاء الصهيوني إلى استنتاج مفاده: «نسبة تصدينا كنسبة خطأهم!».
إلى ذلك، تعتمد الحكومة الصهيونية إلى إخفاء فشلها الذريع بعيداً عن وسائل الإعلام، كحظرها لخبر ضرب منطقة الخضيرة بصواريخ المقاومة، يوماً كاملاً، قبل أن تؤكِّد صحيفة «هآرتس» أن صاروخاً استهدف مصنعاً بتروكيماوياً في الخضيرة على بعد أكثر من 100 كيلومتراً عن قطاع غزة. في بعض الحالات، كسرت الصحافة الصهيونية الحظر الحكومي، لتنقل حقيقة مخاوف الكيان الغاصب، مثل صحيفة «يديعوت أحرونوت» التي اختارت أن تعنون عددها بـ «إسرائيل مشلولة!». وتشتمل حالة الشلل على عقم سلاح الجو الصهيوني عن تحقيق هدفه المتمثل بإسكات صواريخ المقاومة، ما يجبر العدو على احتمالات سيناريو كان قد ذاق مرارته سابقاً: الاجتياح البري.
وحراك الداخل المحتل يضغط...
يدرك العدو جيداً مخاطر تعدد الجبهات المفتوحة في وجهه، وهو ما حوَّله فلسطينيو الثمانية والأربعين إلى سلاح أقلق قوات العدو، عبر تكثيف حركة الاحتجاجات، في محاولة للضغط على الصهاينة وإرباكهم في الداخل وفك بعض من الضغط على قطاع غزة. الاحتجاجات التي تطورت في أكثر من نقطة، لتتحول إلى اشتباكاتٍ تخللتها اعتقالات بالإضافة إلى إصابات بين الطرفين.
وكانت قد انطلقت مظاهرات في كلٍّ من مدن حيفا وعكا بالإضافة إلى قلنسوة والطيبة وأم الفحم ووادي عاره والناصرة ودبورية وعرعرة (في وادي عارة) ومجد الكروم وجسر الزرقاء والفريديس وسخنين والطيرة وباقة الغربية وجلجولية. قبل أن تتحول المظاهرات إلى مواجهات واشتباكات بالحجارة والألعاب النارية والزجاجات الحارقة بين المتظاهرين والشرطة الصهيونية، بعدما قامت الأخيرة بإطلاق قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع باتجاه المتظاهرين لتفريقهم.
وعلى أعقاب المظاهرات والاشتباكات التي شهدتها قلنسوة والطيبة وأم الفحم، قامت شرطة العدو باعتقال أكثر من 20 متظاهراً، ما أدى إلى ارتفاع حالة الاحتقان الشعبية واستمرار الاشتباكات بوتيرة أعلى وأشد. وفي مدينة الناصرة ، الواقعة شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨ ، شارك أكثر من ألف مواطن في مظاهرة صاخبة احتجاجاً على التصعيد العدواني الصهيوني، رافعين شعارات منددة بالاحتلال.
التضامن.. عربياً وغربياً
مع الأيام الأولى للعدوان الصهيوني، والرد المقاوم عليه، خرجت مظاهرات في عدد من البلدان العربية والغربية، تضامناً مع المقاومة الفلسطينية ورفضاً للقصف المتواصل الذي تتعرض له بيوت المدنيين في قطاع غزة المحاصر.
بالإضافة إلى التظاهرات الحاشدة التي خرجت في مصر وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا واليمن والأردن ولبنان. نظمت الجاليات العربية، بالإضافة إلى بعض القوى اليسارية، عدة مظاهرات في كلٍّ من بوسطن وتورونتو وواشنطن وواترلو وأونتاريا والبوكويركو وبيتسبورغ وسانت دييغو ولندن وأثينا وكولومبيا وجنيف وروما.
وفي إسبانيا، طالب المحتجون الذين احتشدوا في إحدى ساحات العاصمة مدريد، بتجميد اتفاقية الشراكة بين «إسرائيل» والاتحاد الأوروبي، وإلغاء كافة أشكال التعاون العسكري والأمني، و«أن توقف الشركات الإسبانية كافة أنشطتها في «إسرائيل»، حتى لا تصبح مجرمة حرب هي الأخرى».
أما في إيرلندا، فقد اعترض شباب ايرلنديون موكب السفير الصهيوني في دبلن، احتجاجاً منهم على عدوان كيانه على غزة. وفي جنوب إفريقيا، حاصر متظاهرون مبنى وزارة الخارجية، مطالبين بطرد السفير الصهيوني، وسحب سفير بلادهم من تل أبيب.
الفصائل الفلسطينية... بين نهجين
الانقسام بين النهجين الفلسطينيين، نهج المقاومة والتحرير من جهة ونهج المفاوضات و«السلمية في مواجهة المحتل» من جهة أخرى، بدا واضحين في النظر إلى التصريحات السياسية التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية.
في وقتٍ أعاد فيه رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، اجترار خطابات التهدئة والعودة إلى المفاوضات، مطالباً بـ «وقف القتال فوراً، حقناً للدماء»، وذاهباً أبعد من ذلك في حديثه مع قناة «الميادين» الفضائية، حيث أعلن أن «موازين القوى العسكرية في صالح «إسرائيل» وليست في صالح فلسطين»، مؤكداً أن «إسرائيل تعتدي علينا ونحن ندافع عن أنفسنا فقط بالقانون الدولي لا أكثر ولا أقل».
من جهةٍ أخرى، كانت «كتائب القسام» قد أكدت في بيانٍ لها، أن الشروط المفروضة قبل أية تهدئة هي «وقف العدوان على القدس والضفة والداخل، والإفراج عن كافة محرري صفقة شاليط، والالتزام ببنود التهدئة السابقة، والكف عن التدخل بحكومة الوفاق وتخريب المصالحة الفلسطينية». وفي كلمةٍ للناطق الإعلامي باسم «القسام»، أبو عبيدة، قال: «يتوعدنا يعالون بالحرب البرية، نقول: أتتوعدنا بما ننتظر؟.. إن المقاومين في غزة ينتظرون ذلك، وسنجعل منها فرصة للأمل المنشود لأسرانا».
وكان الناطق الرسمي باسم «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، أبو أحمد، قد أعلن في حديثٍ صحفي أن ما كشفت عنه المقاومة حتى الآن ما هو إلا البداية، متوعداً الاحتلال بالمزيد من المفاجآت، مضيفاً أن «المقاومة لم تتلقى، حتى الآن، أية دعوات جدية لاتفاق وقف إطلاق نار، ولن نقبل إلا بتنفيذ شروطنا، لن نقبل بتهدئة مقابل تهدئة». وحول التنسيق بين الفصائل، أكد أبو أحمد أن «التنسيق بين فصائل المقاومة، وبين السرايا وكتائب القسام على وجه الخصوص، مستمر على مدار الساعة وعلى أعلى المستويات».
إلى ذلك، كانت كتائب «أبو علي مصطفى» واضحة في خياراتها، والتي أكدت في بيانٍ لها، أن «مقاومتنا تخطت مرحلة الدفاع و بدأت أسلوب الهجوم، ونضالنا هو دفاعاً عن أرضنا المحتلة وعن شعبنا، وغزة ستكون نقطة التحول في معركتنا مع الاحتلال نحو دحره وتحرير الأرض»، ليتابع البيان أن «كتائب الشهيد أبو علي مصطفى أعدت مقاتليها جيداً لمعركة طويلة الأمد تنهي فيها، مع باقي فصائل المقاومة، احتلالاً دام سنين وما أعدته الكتائب من مفاجآت في حال أقدم قادة الاحتلال على شن عمليتهم البرية سيشكل لهم صاعقة. ولا توجد خطوط حمراء في هذه المعركة». وفي حديثٍ لوسائل الإعلام، طلب الرفيق أبو أحمد فؤاد، نائب الأمين العام في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بضرورة «تجميع كافة إمكانات القوى، والعمل حسب خطة موحدة، تقود إلى توجيه ضربات مركزة وعلى أهداف دقيقة ينتج عنها خسائر كبيرة في جيش الاحتلال»، وتابع فؤاد: «مطلبنا الرئيسي هو تشكيل غرفة عمليات مشتركة، وليست شكلية، تضع أمامها الخرائط وتحدد الأهداف وتوزع المهمات، وتنحية الخلافات السياسية بين الفصائل والذهاب باتجاه تصعيد المقاومة وتطوير فعاليتها، وعدم كشف إمكانياتها وتكتيكاتها والعمل على مفاجئة العدو من خلال توجيه ضربات قاسية له».