أمريكا والحزب الثالث.. هل حقاً انتهى «نظام الحزبين»؟!
أحمد علي أحمد علي

أمريكا والحزب الثالث.. هل حقاً انتهى «نظام الحزبين»؟!

تواجه الولايات المتحدة تطورات سياسية لافتة تضع نظام الحزبين التقليدي أمام مفترق طرق. فعلى مدى قرنين من الزمن تقريباً هيمن الحزبان الجمهوري والديمقراطي على المشهد السياسي الأمريكي، مما جعل الثنائية الحزبية أشبه بقاعدة ثابتة في حكم البلاد. لكن اليوم، ومع إعلان الملياردير إيلون ماسك عن تأسيس حزب سياسي جديد، بدأ الحديث يتصاعد حول ما إذا كنا أمام تغير جوهري في قواعد اللعبة السياسية أم مجرد إعادة ترتيب للأوراق القديمة. فظهور حزب ثالث في أمريكا يثير أسئلة عميقة: هل سيتمكن هذا الحزب الجديد من كسر احتكار الحزبين الكبيرين وفتح حقبة سياسية جديدة، أم أنه سيكون امتداداً للصراع القائم بين النخب الاقتصادية داخل الإطار التقليدي؟

حزب ماسك الثالث وصراع النخب التكنولوجية

أعلن رجل الأعمال الشهير إيلون ماسك مؤخراً عزمه على تشكيل حزب سياسي جديد أطلق عليه اسم «حزب أمريكا». وجاء هذا التحرك عقب خلاف حاد بين ماسك والرئيس دونالد ترامب حول قانون كبير لخفض الضرائب تم إقراره حديثاً. فقد كان ماسك داعماً لترامب في السابق وتولى منصباً استشارياً في إدارته، لكنه اعترض بشدة على ذلك القانون واعتبره إنفاقاً مسرفاً يهدد باستنزاف موارد البلاد. وأعلن ماسك عبر منصة التواصل الاجتماعي X (تويتر سابقاً) قائلاً: «إننا حين يتعلّق الأمر بإفلاس بلادنا عبر الهدر والفساد، نعيش في نظام حزب واحد وليس ديمقراطية... اليوم، يتم تشكيل حزب أمريكا لإعادة الحرية إليكم». هذا التصريح انتشر سريعاً وأثار ضجة في الأوساط السياسية، حيث اعتبره البعض تحدياً صريحاً لنظام الحزبين الراسخ.

ردّ ترامب على خطوة ماسك بسخرية وازدراء. فحين سُئل عن الأمر، وصف فكرة الحزب الجديد بأنها «سخيفة» مؤكداً أن النظام السياسي الأمريكي كان دوماً قائماً على حزبين. وأشار ترامب إلى أن دخول طرف ثالث على الخط لن يؤدي إلا إلى «المزيد من البلبلة»، مضيفاً أن الأحزاب الثالثة «لم يسبق أن نجحت أبداً» في تاريخ الولايات المتحدة. نظرة ترامب هذه تعكس حقيقة تاريخية مفادها أن تشكيل أحزاب جديدة أمر غير نادر ولكنه نادراً ما يُحدث تأثيراً كبيراً على توازن القوى؛ فالأحزاب الجديدة غالباً ما تفشل في جذب قاعدة شعبية واسعة من أنصار الحزبين التقليديين. ومع ذلك، يرى محللون أن وضع ماسك مختلف هذه المرة نظراً لما يتمتع به من ثروة ونفوذ استثنائيين. فهو أغنى رجل في العالم تقريباً، وقد أنفق في الانتخابات السابقة ما لا يقل عن 250 مليون دولار دعماً لحملة ترامب عام 2024. هذا يعني أنه لو قرر توظيف ثروته الهائلة لبناء حزبه الجديد، فقد يتمكن من التأثير فعلياً على نتائج الانتخابات النصفية 2026 عبر تمويل مرشحين قادرين على المنافسة.

ولكن يبقى السؤال الجوهري: هل يمثل حزب ماسك تغييراً حقيقياً في المشهد السياسي أم مجرد استمرار للصراع داخل الطبقة الحاكمة؟ يشير كثير من المراقبين إلى أن توجهات ماسك السياسية تندرج غالباً ضمن مصالح نخبة الشركات التكنولوجية وأصحاب رؤوس الأموال في وادي السيليكون. فهذه الفئة من النخب الاقتصادية تشعر أنها لم تحظَ بنصيب كافٍ من النفوذ في ظل النظام الحالي، وهي تسعى إلى زيادة حصتها من «الكعكة» السياسية والاقتصادية. على سبيل المثال، كشفت تقارير حديثة أن كبار المستثمرين في قطاع التكنولوجيا والعملات الرقمية أصيبوا بخيبة أمل من سياسات إدارة ترامب الأخيرة. فعلى الرغم من أن مانحي العملات الرقمية ضخّوا مئات ملايين الدولارات دعماً لحملة ترامب 2024، إلا أنهم لم يجنوا مكاسب تُذكر لقاء ذلك. وكذلك لم يحصل عمالقة التكنولوجيا على بعض البنود التي رغبوا بها في التشريعات؛ إذ خرج ممثلو وادي السيليكون من حزمة قانون «الازدهار الكبير» التي دفع بها ترامب دون تحقيق مطلبهم بفرض حظر لعشر سنوات على التنظيم المحلي (على مستوى الولايات) لتقنية الذكاء الاصطناعي. هذا المطلب كان يهدف لحماية تطور تقنياتهم من قيود التنظيم، لكن اعتراض بعض المشرعين حال دون إدراجه، ما ترك الشركات التقنية «خالية الوفاض» من تلك الحزمة.

مثل هذه الأمثلة تدل على أن النخبة التكنولوجية تشعر بالقلق من سياسات إعادة التوزيع أو القيود التنظيمية التي قد تحدّ من تفوقها؛ فهي ترى أن أي تقليص لدعمها أو زيادة في أعبائها (كزيادة الضرائب أو القوانين المقيّدة) ربما يؤدي إلى تخلّفها عن اللحاق بالمنافسين العالميين (وفي طليعتهم الصين). لذلك ليس مستغرباً أن يسعى قادة التكنولوجيا إلى إنشاء منصّة سياسية جديدة تضغط باتجاه مصالحهم المباشرة. ويُمكن فهم حزب ماسك المقترح في هذا الإطار: فهو محاولة من فئة رأسمالية تقنية للانخراط المباشر في السياسة لضمان عدم تهميش أجندتها في خضم صراع المصالح القائم.

من هنا، قد لا يكون حزب ماسك انقلاباً على نظام الحزبين بقدر ما هو إعادة فرز للتحالفات داخل نفس الطبقة الاجتماعية المهيمنة. فبرنامج هذا الحزب المرتقب – إن أبصر النور فعلاً – سيعكس على الأرجح تطلعات التيار التكنولوجي والشركات الكبرى أكثر من كونه معبّراً عن قواعد شعبية جديدة. وربما يركّز على قضايا مثل تقليل الهدر الحكومي وفرض انضباط مالي (وهو ما انتقد ماسك ترامب بسببه)، والدفاع عن الابتكار التقني وحرية الإنترنت والعملات الرقمية من التدخلات الحكومية. وهذه كلها أهداف تبدو جديدة في الشكل لكنها تخدم شريحة محددة من أصحاب المصالح. لذلك، ورغم الزخم الإعلامي الذي يصاحب إعلان حزب ثالث، علينا أن نسأل: هل تغير قواعد اللعبة فعلاً أم أن اللاعبين أنفسهم (أصحاب النفوذ الاقتصادي) ينقلون مباراتهم إلى ميدان جديد لتحقيق مصالحهم؟

 

ماذا عن نظام «الفيل والحمار»؟

لقد قام نظام الحزبين في أمريكا تاريخياً على قاعدة عريضة تضم مختلف شرائح المجتمع ضمن حزبي الديمقراطيين والجمهوريين. فمنذ القرن العشرين على الأقل، تمكن الحزبان من اجتذاب تأييد البرجوازية الكبيرة والطبقة المتوسطة وصولاً إلى العمال، عبر برامج تستهدف مصالح هذه الفئات المتباينة نظرياً. ورغم الاختلاف الأيديولوجي بين الحزبين، فقد نجحا عموماً في استيعاب المطالب الشعبية ضمن أجندتيهما، مما أبقى الأصوات المعارضة محصورة في نطاق ضيق من الأحزاب الصغرى عديمة التأثير. لكن تطورات العقود الأخيرة تشير إلى أن هذا التوازن بدأ يختل تدريجياً.

تعاني اليوم الطبقة الوسطى والعاملة الأمريكية من ضغوط اقتصادية غير مسبوقة منذ عقود. فقد تقلّص حجم الطبقة الوسطى بشكل ملحوظ؛ حيث انخفضت نسبة الأسر التي تُعدّ ضمن الشريحة متوسطة الدخل من حوالي 61% في عام 1971 إلى نحو 51% فقط في السنوات الأخيرة. وهذا يعني أن شرائح واسعة انجرفت إما نحو قمة الهرم المالي أو قاعدته، في مؤشر على اتساع فجوة اللامساواة الاقتصادية. وبينما راكمت فئة قليلة ثروات طائلة، وجدت أسر كثيرة نفسها تكافح للحفاظ على مستوى معيشتها. وأظهر استطلاع حديث أن 65% من الأمريكيين المُصنّفين ضمن الطبقة الوسطى يقولون إنهم يعانون صعوبات مالية تمتد آثارها على حياتهم اليومية. بل إن قرابة 40% من الناس غير قادرين على التخطيط المالي لأبعد من الراتب التالي، ونحو 46% لا يملكون مدخرات تتجاوز 500 دولار للطوارئ. هذه أرقام صادمة تعني أن شريحة ضخمة تعيش على حافة الهاوية الاقتصادية. وليس مستغرباً والحال هذه أن يرتفع معدّل الإفلاس الشخصي في البلاد؛ فبحسب الإحصاءات تم تسجيل حوالي 494 ألف حالة إفلاس في عام 2024 وحده، بزيادة تفوق 60 ألف حالة عن العام السابق.

في ظل هذه الضغوط، يشعر الكثيرون من أبناء الطبقتين الوسطى والدنيا بأنهم باتوا بلا صوت حقيقي في النظام السياسي. فلطالما قدّم الحزبان وعوداً براقة لهذه الفئات – من تحسين الخدمات ورفع الأجور إلى تخفيف الضرائب على المواطنين – لكن الواقع يكشف عن استمرار معاناتهم الاقتصادية وتراجع حصصهم من ثروة البلاد. هذا الخلل بين الوعود والواقع ولّد حالة سخط واغتراب عن السياسة ظهرت جلية في استطلاعات الرأي. إذ كشفت مؤسسة «غالوب» أن 63% من الأمريكيين يؤمنون بأن الحزبين الديمقراطي والجمهوري يفشلان في تمثيل الشعب بشكل جيد لدرجة تستوجب ظهور حزب ثالث قوي. وبالمثل، وجدت دراسة صادرة عن مركز «بيو» للأبحاث أن ربع المواطنين (25%) يعتقدون أن لا الحزب الجمهوري ولا الديمقراطي يمثّل مصالح «أمثالهم» ولو بشكل مقبول.

ومن هنا يمكن فهم أن زوال نظام الحزبين – إذا ما حدث – لن يكون بمجرد وجود حزب ثالث فحسب، بل عبر نشوء قوّة سياسية شعبية حقيقية تمثل من تم تهميشهم طويلاً. أي أن انهيار الثنائية الحزبية سيتجسد فعلياً عندما تتشكل حركة أو حزب يستطيع استقطاب الطبقة الوسطى والعاملة التي فقدت الثقة بوعود الحزبين التقليديين.

آخر تعديل على الأحد, 13 تموز/يوليو 2025 23:39