كيف تؤثر الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على أوروبا؟!
فرضت الولايات المتحدة مؤخراً حزمة رسوم جمركية جديدة واسعة النطاق على واردات أوروبية متنوعة. أبرز هذه الرسوم تضمنت فرض 25% تعريفة على واردات الصلب والألمنيوم من أوروبا، حيث رُفعت رسوم الألمنيوم من 10% إلى 25% لتتساوى مع رسوم الصلب. كما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض رسوم بنسبة 25% على واردات السيارات الأوروبية، مستهدفاً قطاع السيارات الحيوي بشكل مباشر.
وإلى جانب ذلك، طبّقت واشنطن رسوماً شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات حول العالم، مع زيادات إضافية «متبادلة» على شركاء محدَّدين. وفي حالة الاتحاد الأوروبي، بلغ إجمالي التعريفة على معظم السلع الأوروبية حوالي 20% نتيجة هذه السياسة.
مبررات الإدارة الأمريكية
أمّا مبررات الإدارة الأمريكية لهذه الرسوم فجاءت بعدة ذرائع. رسمياً، استند البيت الأبيض إلى دواعي الأمن القومي لحماية الصناعات الأمريكية، خاصة في قطاعي المعادن والصلب. واعتبرت واشنطن أن فائض الواردات من الصلب والألمنيوم يهدد قدرة الصناعة المحلية ويبرر هذه الخطوة تحت المادة 232 من قانون التوسع التجاري.
وإضافة إلى ذلك، طرح الرئيس ترامب مفهوم «المعاملة بالمثل» مدعياً أن الرسوم الجديدة تعادل بشكل ما الحواجز التجارية التي تواجهها الصادرات الأمريكية. ووفق هذه الرؤية، سعى ترامب إلى إعادة التوازن التجاري لصالح الولايات المتحدة عبر ما أسماه بـ «يوم التحرير» في 2 نيسان/أبريل 2025، حيث أعلن سلسلة تعريفات غير مسبوقة تعد الأكبر من نوعها. وبرر البيت الأبيض هذه الرسوم أيضاً بضرورة معالجة اختلال الميزان التجاري الكبير مع أوروبا، إذ بلغ فائض الاتحاد الأوروبي التجاري مع أمريكا نحو 198 مليار يورو في 2024. لذلك، رأى صناع القرار الأمريكيون أن فرض الرسوم سيضغط على أوروبا لتخفيض حواجزها وإبرام اتفاقات «أكثر عدلاً» للجانب الأمريكي.
بشكل عام، يمكن تلخيص الموقف الأمريكي بأن هذه الرسوم وُضعت لحماية الصناعات والوظائف الأمريكية من المنافسة الأجنبية، وكوسيلة ضغط تفاوضية أيضاً للحصول على تنازلات تجارية. ومع أن هذه المبررات محل جدل، فقد مضت الإدارة الأمريكية قدماً في تنفيذ التعريفات التي تؤثر على بضائع أوروبية تُقدَّر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات.
ردود الفعل الأوروبية
نددت بروكسل بسرعة بهذه الرسوم ووصفتها بأنها «غير مبررة وتُلحق الضرر» بالعلاقات الاقتصادية. وأكدت المفوضية أنها سترد بإجراءات «قوية لكن متناسبة» للدفاع عن مصالحها. وفي 12 آذار/مارس 2025، أعلنت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين أن الاتحاد الأوروبي سيفرض رسوماً انتقامية بقيمة 26 مليار يورو على واردات أمريكية، مما يعادل تقريباً قيمة التأثير التجاري للرسوم الأمريكية. وشدّدت فون دير لاين أن أوروبا منفتحة على التفاوض لحل النزاع، لكنها مضطرة للتحرك لحماية شركاتها ومستهلكيها.
واعتبرت المؤسسات الأوروبية أن الدخول في حرب تجارية ليس من مصلحة أحد، بيد أنها أكدت جاهزيتها لإنهاء تعليق الرسوم الأوروبية السابقة والشروع فوراً في فرض التعريفات المضادة ابتداءً من أبريل 2025. وقد تم بالفعل تصويت أغلبية الدول الأعضاء (باستثناء هنغاريا) لصالح حزمة رسوم انتقامية تشمل بضائع أمريكية بقيمة 21 مليار يورو مبدئياً، على أن تدخل بعضها حيز التنفيذ منتصف أبريل والبقية بحلول ديسمبر 2025.
من جانبها، تبنّت فرنسا نبرة صارمة في الرد. فقد صرّح وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي بنجامين حداد أن الاتحاد الأوروبي يمكنه اتخاذ خطوات أكبر رداً على الرسوم إذا لزم الأمر. وأكد أن الحرب التجارية ليست في مصلحة أحد، وأن أوروبا لن ترضخ للضغوط الأمريكية وستدافع عن نفسها. وألمح حداد في مقابلة تلفزيونية إلى أنه إذا تصاعد الوضع قد يمتد الرد الأوروبي ليشمل القطاع الرقمي وحقوق الملكية الفكرية لضرب المصالح الأمريكية الحساسة.
ويشار هنا إلى أن فرنسا كانت من أكثر الدول قلقاً من الرسوم الأمريكية، خاصة مع تهديدات سابقة طالت صادرات النبيذ والأجبان الفرنسية.
أمّا ألمانيا، باعتبارها أكبر اقتصاد أوروبي ومصدّراً رئيسياً إلى أمريكا، جاءت ردة فعلها حادة أيضاً. إذ حذّر وزير الاقتصاد الألماني من خطورة هذه الخطوات، داعياً الاتحاد الأوروبي إلى رد «حازم وواضح» يؤكد أن أوروبا لن تتراجع أمام الولايات المتحدة. كما انتقدت وزيرة الخارجية الرسومَ بشدة، ولا سيما رسوم السيارات، مستخدمة تشبيهاً لاذعاً بأن «من يهدم المنزل بكرة حديدية لمجرد حاجة السقف للإصلاح، سينتهي به الأمر وسط أنقاض يصعب جمعها». وهذا التصريح التصعيدي يعكس رؤية برلين بأن النهج الأمريكي يدمر أسس العلاقات الاقتصادية بدلاً من إصلاح الخلل فيها. وقد انعكست هذه المخاوف على الأسواق، حيث تراجعت أسهم شركات السيارات الألمانية الكبرى بمجرد إعلان الرسوم.
بدورها، أكدت إيطاليا رفضها القاطع للرسوم الأمريكية واصطفت مع الموقف الأوروبي. ورغم عدم صدور تصريحات إيطالية بارزة، فإن روما عبرت عن قلقها البالغ على قطاعاتها التصديرية الرئيسية إلى الولايات المتحدة، مثل صناعات الموضة والسلع الجلدية والمواد الغذائية الراقية وآليات المصانع. وأعلنت الحكومة الإيطالية دعمها الكامل لإجراءات المفوضية الأوروبية، ودعت إلى التضامن الأوروبي في مواجهة ما اعتبرته إجراءً عدائياً.
بالمقابل، تبنّت إسبانيا نبرة تدعو للتهدئة والحوار. إذ خرج رئيس الوزراء الإسباني ليصف الرسوم الجمركية الجديدة بأنها «هراء يجب إيقافه»، داعياً الإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر في القرار وفتح حوار مع الاتحاد الأوروبي بدلاً من التصعيد. وبينما شددت دول كألمانيا وفرنسا على لهجة التحدي، حرصت مدريد على التأكيد أن الأوروبيين لا يريدون حرباً تجارية بل يسعون لحل متفاوض عليه.
هذا وأعربت منظمات الأعمال الأوروبية عن رفضها الشديد للرسوم الأمريكية، وحذرت من عواقب وخيمة على التوظيف والاستثمار. كما أشارت رابطة الصلب الأوروبية إلى أن الرسوم ستؤدي لفائض معروض في الأسواق الداخلية وانخفاض الأسعار بما يضر الشركات.
تأثيرات اقتصادية وسياسية
تُعد الولايات المتحدة سوقاً رئيسياً للصادرات الأوروبية، بالتالي فإن ارتفاع التكلفة الجمركية سيؤدي مباشرةً إلى تراجع تنافسية المنتجات الأوروبية في السوق الأمريكية. ومن المتوقع أن تنخفض قدرة المصدرين الأوروبيين على خفض الأسعار، الأمر الذي سيقلص حجم الطلب على منتجاتهم.
وقدّر محللون أن صادرات السيارات الألمانية قد تتراجع بحوالي 29% نتيجة رسوم ترامب. وبالمثل، صادرات الصلب والألمنيوم ستتأثر بشدة، مما سيدفع بعض المنتجين الأوروبيين للبحث عن أسواق بديلة أو تقليص الإنتاج. ومع تراجع الصادرات، سينعكس ذلك سلباً على سوق العمل الأوروبي، بخسارة آلاف الوظائف. فالحكومات مثل إسبانيا مثلاً بدأت إعداد حزم طوارئ لمواجهة أي «صدمة اقتصادية».
فيما تسببت الرسوم بتوتر غير مسبوق بين ضفتي الأطلسي. فقد رأت أوروبا أن الإجراءات تمثل خيانة لروح التحالف، وبدأت تتحدث عن تقليل الاعتماد على واشنطن وتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية. ومن جانب آخر، سعت واشنطن لربط الملف التجاري بملفات سياسية وأمنية، مما زاد حدة التوتر. وذلك على الرغم محاولات التهدئة لاحقاً، مثل تعليق الرسوم لمدة 90 يوماً.
في الختام، يمكن القول إن أزمة الرسوم الجمركية ستعيد تشكيل المشهد التجاري والسياسي حول العالم، وبوجه خاص بين أوروبا وأمريكا. ومع احتمالات التصعيد المتوقعة قد نشهد في قادم الأيام مرحلة جديدة من نوعها في العلاقات عبر الأطلسي، ستجد فيها أوروبا نفسها في مشهد لا تحسد عليه، خصوصاً أنها تعاني من أزمات حادّة ولا تجد بين يديها سلاحاً مجدياً. ففي الوقت الذي تعوّل فيه على قواعد «منظمة التجارة العالمية»، تضرب أمريكا بهذه «القواعد» عرض الحائط، وبينما تلوّح بالـ «بازوكا التجارية» [استخدام التجارة كسلاح] فإنها تحتاج 6 أشهر قانونياً على الأقل لتفعيلها، غير أن فعاليتها موضع جدل في ظل دور الدولة الضعيف في أوروبا.