ما وراء «أركيلة الصحفي الموسادي»...
أشعلت صورة للصحافي في القناة 12 «الإسرائيلية» وضابط الموساد إيتاي أنجل وهو يستمتع بأركيلته في دمشق القديمة مساء يوم السبت 22 شباط الصفحات ووسائل التواصل السورية. صورة أثارت لديهم إضافة إلى شعور مرير بالإهانة، شعوراً آخر ممتلئاً بالغضب والتساؤلات.
ماذا يفعل «هاد ال-... شو عم يعمل بالشام؟ وشلون دخل؟ ومين العميل ال-... يلي سمحلو يفوت؟ اللي سمح بدخولو لازم يتحاسب»... إلخ. لم يكتف الناس بالغضب والتساؤل بل ذهبوا إلى درجة الدعوة لـ«وقفة احتجاجية لمطالبة الحكومة السورية بطرد الصحفي (الإسرائيلي) إيتاي إنجل من دمشق، ومنع دخول أي مستوطن إلى الأراضي السورية...».
رغم الأزمة والحرب والظروف المقيتة التي وضعتهم فيها السلطة السابقة، لم تخطئ بوصلة الغالبية العظمى من السوريين ولم تقتل فيهم تلك الروح الوطنية، رغم متاجرة السلطة السابقة بها، عبر محاولة استخدامها كورقة لترويضهم. ولذلك جاءت رؤيتهم لهذه الصورة أشبه بالصفعة العمياء تلقوها وهم يفكرون بحلول لمختلف المشاكل والمسائل التي تواجههم بعد سقوط تلك السلطة.
لم تتوقف السلطة السابقة عن إهانة السوريين يوماً. إهانات لا تُحصى، دفعت جموع السوريين إلى التمييز بين الدولة السورية، دولتهم، والسلطة السياسية التي جلبت لنفسها ولهم مختلف الإهانات داخل سورية، سجون وفقر وقهر وذل... وخارجها في بلدان اللجوء والتشرد، وفي بلدان العمالة الشاقة. واليوم أعادت صورة الصحافي «الإسرائيلي» إلى أذهانهم سؤالاً جدياً: «متى ينتهي درب الإهانة الذي حُشِرنا فيه؟».
«من يتزوج أمي...»
تتضاءل وتتناقص تلك الفكرة المناكدة للسلطة في مرحلة ما، والتي يصرّ عليها خصوم الشعب السوري وأعداؤه في الداخل والخارج في محاولة لإقناعه بالهزيمة. فالفكرة خلف جملة: «من يتزوج أمي... بيصير عمّي»، لا تنبع فقط من مناكدة سياسية، وإن كانت أحياناً كذلك، ولا تنطلق فقط من اختلاف موضوعي في تقدير الواقع، بل غالباً ما تكون نتاج رؤية محددة جرى تسخير إعلاميين وسياسيين ووسائل إعلام متطورة في سبيل فرضها، وبالتالي فرض مفهوم الهزيمة على الوعي الجمعي بغية تقبله ليصبح بالإمكان التأثير في سلوكها ومواقفها ونظرتها إلى نفسها وإلى الآخرين من قناعة أنها مهزومة ومسحوقة، ومن ثم التسليم بما ينتج عن ذلك من تداعيات.
تترتب على إقناع الناس بالهزيمة بالضرورة تداعيات نفسية وسلوكية وسياسية تتناسب مع هذه القناعة؛ فتحقيق الهزيمة الفعلية مرهون بنجاح زرعها في وعي وبنية المجتمع المعني، مما يساهم فعلاً في تحويل المتغيرات الواقعية إلى هزيمة فعلية، حتى وإن كانت ليست كذلك.
وفي أقل تقدير يمكن على الأقل زرع الشك لدى جزء كبير من الناس، حتى وإن كانت أمامهم فرصة فعلية للانتصار والخروج من الحالة السابقة وبناء الجديد الذي يريدونه، وزعزعة ثقتهم بالخيارات المتاحة ولاحقاً النتائج. قد يكون في هذا الكلام ومعرفة تأثير الرموز والإشارات والصورة تحديداً في الوعي الجمعي، شيء من الإجابة على سؤال البعض: لماذا نشر هذا الصحافي الصهيوني مثل تلك الصورة الاستفزازية؟ ولكنه ليس كافياً للإجابة على سؤال ماذا يفعل ضابط الموساد الصهيوني هنا؟
سقوط... وسقوط!
فَرِحَ السوريون بسقوط السلطة السياسية التي كانت تحكمهم، والبعض اعتقد أن سقوطها كان كافياً لسقوط النظام والبنية التي تحكمه. ولكن مع التجربة ومرور الوقت يتضح للناس أن النظام لم يسقط بعد، بل سقطت سلطته السياسية مع بعض رموزه فقط، ولكنه لم يسقط كلياً، يكتشف الناس ومن خلال تجربتهم أن الأنظمة لا تسقط إلا إذا سقطت السياسات التي كانت تتبعها والطرق التي كانت تدير بها الأمور، واستبدالها بأخرى. وعبر كثيرون عن ذلك بوضوح: «إذا هدفك تغيّر النظام السابق ونجحت بإسقاط رأسه كمّل معروفك بتغيير سياساته أيضاً». السياسات التي أوصلت البلاد لتكون ملعباً مستباحاً حتى للصهيوني المحتل لجزء كبير من أراضي البلاد، والذي يتبجح ويتباهى جهاراً نهاراً بخططه ورغباته بزعزعة استقرار البلاد. يدرك الناس بالتجربة صحة يقينهم الخاص بالعدو والصديق، وأنهم لم يخطئوا بتوصيف عدوهم وأن الكيان الصهيوني بكل رموزه هو عدوهم ولن يكون غير ذلك.
وهكذا يصبح مفهوماً قلق السوريين وردهم الغاضب والمباشر على استفزاز وجود هذا الصهيوني أصلاً في دمشق العاصمة أولاً، وصورته التي نشرها بوقاحة وبشكل مقصود في قلب دمشق القديمة ثانياً. فالسوريون يحبون سوريتهم بكل ما فيها، ولا يحتملون أن تهان وتستباح كما لا يحتملون أن يهانوا هم؛ فكرامة بلادهم من كرامتهم، وكرامتهم من كرامة بلادهم.