عن ثنائية الانتصار وملء الفراغ

عن ثنائية الانتصار وملء الفراغ

بغض النظر عن الشكل الذي تم به إخراج عملية إسقاط السلطة، بات واضحاً أنها كانت ثمرة توافق إقليمي ودولي، ولا سيّما أنّ المعارك العسكرية التي سبقتها كانت أشبه بعملية استلام وتسليم... وعليه، لا يحق لأحد احتكار هذا (الانتصار) والاستناد إليه في فرض رؤاه وشروطه على سورية والسوريين، فهذا الانعطاف الكبير ليس صناعة جهة واحدة لوحدها، بل هو نتيجة تراكمات وعلى مدى عقود من النشاط دفع الكثيرُ من السوريين ثمنه من أجسادهم وأرواحهم اعتقالاً وتعذيباً وملاحقة وتخويفاً وتهديداً وإجراءات تعسفية منذ ما قبل تفجّر الأزمة عام 2011، ومن ثم قتلاً ودماراً وتهجيراً ونزوحاً بعد انطلاق الحركة الاحتجاجية وتحولها فيما بعد إلى أزمة وطنية شاملة. بمعنى أوضح، إن الإسقاط هو نتيجة حراك ورغبة عموم السوريين، ولا يحق لأحد استغلال الشكل الذي تم به والاستناد عليه في التحكم لوحده باتجاه تطور الوضع في البلاد، وتوظيفه لغايات لا تعبر عن مصالح سورية والسوريين.

إنّ المؤشر الأول على التناقض العملي مع السلطة الساقطة في ظروف اليوم، هو عدم الاستفراد بالقرار، فالاستئثار بالحكم ورهن البلاد والعباد لصالح بقاء وديمومة السلطة هي أهم خصائص تلك السلطة، والمقدمة الأساسية لكل الكوارث التي ألمّت بسورية والسوريين، وأي بديل عملي عنها في اللحظة الراهنة على الأقل وقبل إجراء انتخابات حقيقية، يجب أن يكون شاملاً وتشاركياً وتوافقياً، والخاصية الثانية هي أن تلك السلطة استخدمت البطش والقوى العسكرية والإقصاء والتهميش في فرض نفسها. وتكرار أي محاولة من هذا النوع هو عملياً ليس قطعاً مع السلطة بل استنساخٌ بائس لسلوكها، ويحوّل الصراع معها إلى مجرد إدّعاءات ومزاعم، لأن المشكلة بالمحصلة النهائية ليست مع فرد بذاته أو مجموعة أفراد، بل مع البنى والعقلية والأدوات والحاضنة التي تفرّخ هؤلاء. 

التنوع والتعدد

بعيداً عن تناول (جوقة التفاهة المتلبْرِلة) التي لا تستذوق إلا علف الخطاب الاستشراقي عن دور الدين، وبعيداً عن جماعة (العلمانية المبتذَلة) التي تمسخ وظيفة العلمانية كمنجز حضاري تاريخي إلى أنها مجرد اشتباك مع المقدَّس الديني، بعيداً عن هذه وتلك،  يمكن التأكيد بأن أية بنية دينية-سياسية بكل تفريعاتها المذهبية والطائفية عاجزة عن القيام بأي دور حقيقي في النهوض بسورية، بغضّ النظر عن نواياها، فهي موضوعياً لا تستطيع أن تعكس تنوع المجتمع السوري ووحدته في آن، لا بل قد تضيف تعقيدات جديدة، تمنع حتى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فمسار التطور التاريخي والجغرافيا السياسية فرضا أن تكون سورية بلداً متنوعاً وتعددياً، وهذا التنوع في تاريخ سورية المعاصر كان ينطوي دائماً على اتجاهين متناقضين، فقد يكون عامل قوة وإغناء، أو يصبح عامل هدم وتفتيت، وذلك حسب طبيعة وسياسة القوى المهيمنة. وباستعراض بسيط لتاريخ سورية المعاصر يتضح بأن الفترة الذهبية هي تلك الفترات التي كان يتم فيها مراعاة هذا التنوع بدءاً بالثورة السورية الكبرى، إلى فترة الخمسينيّات، حيث كان الصراع في الشارع والبرلمان مفتوحاً، وحضارياً ويجري على أساس البرامج  السياسية بعيداً عن الاصطفافات الدينية والقومية، وفي هذا السياق، يمكن القول إن السلطة البائدة أدركت هذه الحقيقة، ولكن بدل أن تعززها، وترسخها وتستكمل ما أنجزه السابقون من روّاد الوطنية السورية، راحت تدير هذه التوازنات الدينية والطائفية والقومية والحزبية، بالتوازي مع تعميم الفساد وتغوّل الأجهزة الأمنية، بغية تثبيت سلطتها، حتى شوّهت كل النسيج الاجتماعي السوري، من خلال الزبائنية وتوزيع فتات المكاسب والامتيازات تارة، وبالتخويف والقمع تارة أخرى. وسرعان ما تخلى عنها الكل في اللحظة الحاسمة، وهذا ما ينبغي أن يكون درساً لأية سلطة لاحقة.     

من يملأ الفراغ؟

انطلاقاً من حقيقة تعدد وتنوع المجتمع السوري، فإن القوى العابرة لما هو ديني وقومي وطائفي وحدها مؤهَّلة لإعادة إنتاج الهُويّة الوطنية السورية ونفضها من الأوساخ التي علقت بها جرّاء سياسات السلطة الهاربة، ووحدها قادرة على تجميع القوى الحية في البلاد وصولاً إلى بلورة تلك الكتلة الاجتماعية القادرة على إنتاج البنية الحقوقية والسياسية المناسبة للنهوض بسورية الجديدة... وانطلاقاً من ذلك فإن العقلية الانتظارية والإحساس بالعجز واللامبالاة، والاكتفاء بالسير في (ذيل الحركة العفوية للجماهير) يفسح المجال أمام ما هب ودب لملء الفراغ الناشىء، فالمجتمع مثل الطبيعة لا يقبل الفراغ وعندما تغيب القوى الجادة والتي من المفروض أن تحمل في بنيتها وبرامجها مشتركات السوريين، ينفتح الطريق مباشرة أمام قوى الفوات التاريخي بإعادة إنتاج نفسها.

إنّ الموقف السياسي الصحيح هوالشرط الأول والضروري لملء الفراغ الناشىء، ولكنه شرط غير كاف، وعليه، فإن المبادرة على الأرض، والعمل الملموس والتواصل الحي مع الناس لتشكيل الأطر المجتمعية الحديثة من نقابات وجمعيات وروابط واتحادات وتجميع كل القوى الحيّة، هي ضرورة لا تحتمل التأجيل لمن يريد أن يكون رقماً في سورية اللاحقة...

     

آخر تعديل على الخميس, 19 كانون1/ديسمبر 2024 20:22