في أي سياق تأتي زيارة هوكشتاين للبنان؟
التقى يوم أمس الإثنين 21/10، مبعوث الرئيس الأمريكي آموس هوكشتاين، عدداً من المسؤولين اللبنانيين في العاصمة اللبنانية بيروت، في مقدمتهم رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي.
وفي مؤتمر صحفي لهوكشتاين من بيروت، عدل عن كلامه السابق عن ضرورة تعديل القرار 1701، وقصر كلامه على أن القرار وإنْ كان سيبقى الأساس في الحل، إلا أنه «لم يعد كافياً».
خلال الأسبوعين الماضيين اللذين سبقا زيارة هوكشتاين، تناقلت وسائل إعلامية ودبلوماسية غربية، وبشكلٍ كثيف، أحاديث عن «شروط إسرائيلية» لوقف إطلاق النار، وتأرجحت بورصة هذه الشروط وفقاً للوسائل التي نقلتها، ابتداءً من الحديث عن انسحاب حزب الله إلى شمال الليطاني، ووصولاً إلى سحب سلاحه بشكلٍ كامل وشرعنة الاختراقات الجوية «الإسرائيلية» لسماء لبنان، بل وأكثر من ذلك، استقدام قوات دولية للإشراف على الحدود السورية اللبنانية، وحصول «إسرائيل» على «حرية الحركة برياً» في مسافات تصل من 5 إلى 10 كم داخل الحدود اللبنانية، بشكلٍ دائم.
الأيام العشرة التي سبقت زيارة هوكشتاين، امتازت بانخفاض ملحوظ في عمليات القصف على الضاحية الجنوبية وعلى بيروت ككل، وانتهى هذا «الهدوء النسبي» بعد زيارة هوكشتاين مباشرة، بما أريد له أن يوحي أنه الرد «الإسرائيلي» على مساعي واشنطن لوقف إطلاق النار وفق شروطٍ لا ترتضيها «إسرائيل».
الأسابيع الثلاثة الماضية، امتازت أيضاً بتراجع كبير في «نشوة الإنجازات» التي عاشها الكيان وداعموه، بعد جملة عمليات الاغتيال التي بدأت بالبيجر مروراً باغتيالات كبرى، ضمناً اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. تراجع النشوة كان سببه الأساسي هو الخسائر التي تكبدها الكيان في الميدان، بالدرجة الأولى في الجنوب اللبناني، وعجزه عن تحقيق أي تقدم ملموسٍ وثابت، وأيضاً تصاعد الضربات والكمائن والعمليات التي يتعرض لها في غزة والضفة، وفوق ذلك عمليات القصف الصاروخي وبالمسيرات التي يقوم بها حزب الله، والتي بدأ نطاقها الجغرافي بالتوسع بشكل ملحوظ، وبدأت الخسائر الناتجة عنها بالتصاعد بشكل يكسر «الرقابة العسكرية الإسرائيلية»... ناهيك عن الهجوم الإيراني الواسع النطاق، والخسائر التي ترتبت عليه، وربما أهم من ذلك الرسائل التي تضمنها، والتي تعد بخسائر مضاعفة في حال انزلقت الأمور باتجاهات أكثر خطورة... ولا يمكن أن ننسى بالتوازي، الضربات الآتية من اليمن والعراق، والتي تمارس دوراً متصاعداً بشكلٍ تدريجي، بما في ذلك ضد القواعد الأمريكية في سورية والعراق.
ورغم اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس يحيى السنوار مؤخراً، إلا أن محاولة استثماره سياسياً ونفسياً في الداخل «الإسرائيلي»، لم تحقق أي نجاحٍ يذكر لأسباب متعددة، ليس مجال ذكرها هنا.
ما هو المطلوب؟
محاولة الربط بين زيارة هوكشتاين والانتخابات الأمريكية التي ستجري بعد حوالي أسبوعين، ربما تكون منطقية إلى حد ما، ولكنها مع ذلك -فيما نعتقد- مسألة ثانوية ضمن الإطار العام للمعركة.
ما يمكن تسجيله حول زيارة هوكشتاين وما رشح عنها حتى الآن، هو الأمور التالية:
أولاً: انخفضت لهجة هوكشتاين نفسه، ومعه الأمريكان بما يخص الشروط التي تتم مطالبة لبنان بها؛ فبين ما رشح عن اجتماع هوكشتاين مع بري، أنه جاء بسؤال واحدٍ فقط، هو: ما هي رؤية الطرف اللبناني لكيفية تطبيق القرار 1701. وذلك في قطعٍ مع النبرة السابقة خلال زياراته الماضية.
ثانياً: هذا الانخفاض هو نتيجة مباشرة لما يجري في الميدان القتالي، خاصة بعد تبخر نشوة النصر الحاسم المفترض الذي تخيله أو أراد ترويجه الصهيوني والأمريكي بعد عمليات الاغتيال.
ثالثاً: يحاول الأمريكي مجدداً احتكار دور الوسيط، وعملياً دور الخصم والحكم، عبر تخفيض مستوى المطالبات، لأن الوساطة ستصبح ضرورية أكثر فأكثر كلما اتضح أن «إسرائيل» ليست قريبة بأي حالٍ من الأحوال من تحقيق نصرٍ ساحق، ناهيك عن احتمالات غرقها بشكلٍ مضاعفٍ في استنزاف طويل الأمد يتضمن احتمالات خسارة استراتيجية أعلى بكثير من احتمالات انتصارات تكتيكية.
رابعاً: يعيد هوكشتاين عملياً الدور الذي سبق أن لعبه جاك سوليفان، مستشار بايدن للأمن القومي بما يخص غزة، حين أصر على أن الوقت حان للانتقال من «العمليات عالية الكثافة، إلى العمليات منخفضة الكثافة»؛ وهو ما يتناسب مع استراتيجية الفوضى الهجينة الشاملة الأمريكية في المنطقة ككل، بحيث تسمح النار المضبوطة، مع الوقت، ومع العمل على الفوالق الداخلية، بتفجير بلدان المنطقة من الداخل، بما يسمح بتطويق المقاومة من كل الجهات، وبما يسمح بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بقوة وحيدة حاكمة هي أمريكا عبر «إسرائيل» وعبر جملة من التقسيمات وأمراء الحروب.
خامساً: لا يمكن أن نخرج من التحليل، احتمالات الحرب المباشرة الكامنة مع إيران، ومخاطرها الكبرى، خاصة مع الإشارات التي يمكن فهمها من استقدام منظومات ثاد الأمريكية التي بحدها الأدنى تعني أن الكيان ليس جاهزاً لتلقي ضربة إيرانية جديدة (كرد على الرد المفترض)... ناهيك عن الحسابات الأخطر المتعلقة باحتمالات تغيير العقيدة النووية الإيرانية في حال التصعيد الذي يهدد به الكيان.
بالمحصلة، يمكن القول إن وظيفة هوكشتاين في زيارته الأخيرة هي وظيفة مركبة؛ من جهة تهدف إلى محاولة رفع الضغط على حزب الله في الداخل اللبناني، وخلق اصطفاف سياسي ضده، باستخدام الترغيب والترهيب. ومن جهة ثانية، فهو يسعى إلى ضبط درجة كثافة النيران بما يسمح بإتاحة الوقت الكافي لتفعيل الفوضى المطلوبة، وبما يمنع الانزلاق إلى احتمالات تصعيد غير مضبوطة، وغير واضحة النتائج. ومن جهة ثالثة، فهو يترك خط رجعة دبلوماسياً للأمريكي وللـ«إسرائيلي»، في حال ازدياد التعقيدات في الميدان وازدياد خسائر الكيان...