بعد توقفها منذ الحقبة السوفيتية مناورات «المحيط» تعود من جديد
أعلنت موسكو عن إطلاق مناورات بحرية ضخمة «المحيط 2024» اعتباراً من 10 أيلول الجاري حتى يوم الإثنين 16 من الشهر ذاته، الحدث يبدو للوهلة الأولى عابراً في ظل كثافة المناورات العسكرية على المستوى العالمي، إذ يكاد لا تمرّ بضعة أسابيع إلّا وينفّذ بلدٌ ما أو عدّة بلدان مناورات عسكرية يستعرضون فيها قواهم ويحاولون تقييم وضع قواتهم المسلحة، لكن ما الذي يميّز مناورات «Okean - 2024»؟
من الطبيعي عند تحليل أي مناورات عسكرية أن يلقى الضوء على مسألتين أساسيّتين؛ الأولى ذات طابع تكنيكي-عسكري، أمّا الثانية فهي سياسية. ونظراً لأن نقاش الأولى يعتمد على وجود مختصّين بمسائل الصناعات والعلوم العسكرية سنحاول فهم الجانب السياسي لهذه المناورات. فبالرغم من أنّ الإطار العام لجانبها السياسي يبدو واضحاً، وخصوصاً إذا ما أخذنا طبيعة المواجهة المشتعلة بين روسيا والغرب، إلا أنّ القُطَبَ المخفيّة من شأنها توضيح بعض المسائل الأساسية.
كيف عبّرت روسيا عن «Okean - 2024»
مع بداية المرحلة النشطة من هذه المناورات، انضم الرئيس الروسي للمشاركة فيها عبر الفيديو بحضور وزير الدفاع أندريه بيلاوسوف وعدد من ضباط قيادة الأركان والقوات البحرية؛ وفي كلمته الافتتاحية أشار فلاديمير بوتين إلى أنّ هذه المناورات تعد الأكبر منذ 30 عاماً، وأشار إلى المحاولات الأمريكية للحفاظ على هيمنة واشنطن العالمية العسكرية والسياسية بأيّ ثمن، وأن واشنطن وحلفاءها الغربيّين يحاولون إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، ونبّه أيضاً إلى أنهم يعلنون خططهم صراحةً لنشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في «المناطق الأمامية في الجزء الغربي من المحيط الهادئ وكذلك في بعض دول آسيا» حسب تعبيرهم، وتقوم القوات الأمريكية بحسب الرئيس الروسي حالياً بعمليات نقل ونشر أنظمة صاروخية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
بالنظر إلى الكلمة الافتتاحية للرئيس الروسي تظهر وضوحاً الرسالة الأساسية التي يوجّهها جيش بلاده إلى الأعداء، ولكنّ المناورات الحالية أضافت بعداً جديداً، فبحسب وزير الدفاع تشمل أهداف المناورات صدّ عدوان واسع النطاق لعدو محتمل من اتجاه المحيطات، وعلى هذا الأساس يشمل مسرح هذه المناورات كلّاً من المحيط الهادي والمحيط المتجمّد الشمالي والبحر الأبيض المتوسّط وبحر قزوين وبحر البلطيق ما يعني أنّ الرسالة الأهم هي أن روسيا تستعد للتعامل مع صراع على المستوى العالمي وتأمين حدودها البحرية من كل الاتجاهات وفي وقتٍ واحد.
وبحسب الأرقام الرسمية المعلنة يشارك في «Okean - 2024» أكثر من 90 ألف عسكري و400 سفينة حربية وغواصة ومختلف سفن دعم الأسطول المساعدة، وأكثر من 120 طائرة ومروحية، ونحو 7000 قطعة من الأسلحة والمعدات العسكرية.
وبحسب بعض المصادر الغربية كان الإعلان عن عدد القطع البحرية المشاركة صادماً، ما دفعهم للتشكيك في كون الرقم يشمل الجزء الأكبر المعلن من القوات البحرية الروسية، لكن ما يهمّنا أنّ مناوراتٍ بهذا الحجم لا تُعَدّ استجابةً للوضع الحالي فحسب، بل هي بالضرورة إشارةٌ إلى استعداد روسيا لأيّ سيناريو محتمل لتطوّر الصراع أو توسُّعه.
مشاركة الصين وحضور 15 مراقباً دوليّاً
وكما جرت العادة كانت للقوّات البحريّة والجويّة الصينيّة مشاركةٌ في هذه المناورات، فبعد أنْ أعلنت وزارة الدفاع الروسيّة عن مشاركة أطراف أجنبية فيها، ظهرت على الإعلام لقطاتٌ لالتقاء السفن الحربية الصينية والروسية في خليج بطرس الأكبر في بحر اليابان، ومن هناك شارك الطرفان بتدريبات محدَّدة في تلك المنطقة شملت «وضع إجراءات عملية مشتركة للدفاع عن الاتصالات البحرية وعن مناطق النشاط الاقتصادي في المنطقة البحرية المحاذية للدولتين في المحيط الهادئ». وبالرغم من أنّ المشاركة الصينية بدت رمزيةً كونها لم تتعدَّ 4 سفنٍ إلى جانب زوارق إمداد و15 طائرة، إلّا أنّ المناورات البحرية المشتركة بين الجانبين بدأت عامَ 2005 وتحوّلت عامَ 2012 إلى مناورات دوريّة بمواعيد منتظمة، وشملت مناطقَ متعددة على المستوى العالميّ، وشاركت فيها دول أخرى في بعض الأحيان، ما يؤكّد أن التعاون العسكري قائم ويشهد تطوّراً دوريّاً، وخصوصاً مع إدراك روسيا والصين أنّ مواجهة المخاطر الأمريكية والغربية غير ممكنة إلّا عبر زيادة التعاون بين البلدين، ولا سيّما في مناطق حسّاسة مثل بحر اليابان والمحيط الهادئ بالإضافة إلى المحيط المتجمّد الشمالي.
بالإضافة إلى المشاركة الصينية المباشرة، كان هناك حضور لـ 15 دولة أخرى بصفة مراقبين بما شمل أكثر من 30 شخصية، وبالرغم من أنّ قائمة هذه الدول لم تنشر بشكل رسمي إلّا أنّ وسائل الإعلام تداولت صوراً للملحق البحري في سفارة الهند لدى روسيا، وهو مؤشّر جديد على مستوى العلاقة الحالي بين روسيا والهند.
دلالات إضافية
إن إطلاق «Okean - 2024» يحمل كذلك دلالة مهمّة إضافية، إذ يعدّ نسخة 2024 من المناورات السوفييتية الشهيرة التي حملت الاسم ذاته، وجرت في الأعوام 1970، و1975، و1977، و1983 وكان آخرها في 1985. وعرفت مناورات «Okean - المحيط» بأنها أكبر مناورات بحرية في التاريخ في حينه، وشملت المحيطات الرئيسيّة في العالم. وفي الوقت الذي كانت فيه هذه المناورات تعكس الوزن والحضور السوفييتي على الساحة العالمية، جاء توقّفها منذ أوسط الثمانينيّات تعبيراً عن انكفاء ذلك الوجود، مما سمح بالهيمنة الأمريكية العسكرية؛ تلك التي تحدّث عنها الرئيس بوتين في افتتاح المناورات، وفي حين كانت المناورات الأضخم في الحقبة السوفييتية هي تلك التي جرت في 1970 وضمّت في حينها 200 سفينة، جاءت مناورات 2024 بعد انقطاع طويل بضعف هذا العدد من السفن والقطع البحرية، واستعرضت أيضاً أحدث الأسلحة التي باتت بحوزة القوات الروسية. ولكن ربما تكون الرسالة الرمزية الأهم هي المشاركة الصينية، ففي حين كانت العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والصين متوتّرة وصعبة في حينه، وهو ما سهّل المهمّة على الولايات المتّحدة، نشهد اليوم واقعاً مختلفاً يكون للسفن الصينية الأربعة المشاركة فيه وزنٌ يفوق كلّ التصوّرات.