ماذا يجري في القطب الشمالي؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟
تفسِّر مجموعةٌ من المسائل عودةَ الحديث عن القطب الشمالي بكثافة، بل وتحوّلَه إلى ساحة للمنافسة، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع ملحوظ للنشاطات العسكرية، كان آخرها طلعة جوية روسية-صينية في إطار مناورات عسكرية مشتركة، فما السرّ الكامن في ذلك الجزء المتجمِّد من الأرض؟
الجواب على سؤالٍ كهذا يتجه غالباً إلى فكرة صحيحة تَرُدُّ الاهتمام بالقطب الشمالي إلى التغيّر المناخي في العالم، وتأثيره الكبير على طبقات الجليد السميكة، مما سمح باستخدام «طريق الشمال» للملاحة، وتحديداً في فترة الصيف، ليكون بذلك بديلاً عن قناة السويس، المسار البحري الأهم والأكثر ازدحاماً في العالم، لكن الممرّ التجاري لا يكفي وحده لتفسير ما يجري هناك!
كيف ترى روسيا «القطب الشمالي»؟
روسيا هي الدولة الأكبر من ضمن مجموعة دول لها أراضٍ في القطب الشمالي، هذا ما فرض عليها التعامل دائماً معه كجبهة عريضة ينبغي تأمينها والاستفادة من ميزاتها الحيوية، وربما تكون الحرب العالمية الثانية مثالاً جيداً إذ حاول الجيش النازي بالتعاون مع الجيش الفنلندي أن يهاجم روسيا من القطب الشمالي، فكانت معركة مورتنسك 1941 وانتهت هذه المحاولة بالفشل، نظراً لصعوبة ظروف القتال وقلة خبرة الجيش الألماني في التحرك بمنطقة كهذه، ثم عاد القطب الشمالي للواجهة خلال الحرب الباردة، وتحديداً أن الولايات المتحدة سعت في تلك الفترة إلى تطوير البنية التحتية العسكرية في آلاسكا، الولاية الأمريكية الأكبر، والتي يفصلها عن الأراضي الروسية مضيق بيرينغ، ليكون بذلك الجيش الأمريكي قادراً على نشر قوات تبعد 82 كم عن الأراضي الروسية، في نقطة تبعد عن الولايات الشمالية الأخرى حوالي 800 كم!
هذا الواقع الجغرافي يكشف الأهمية الاستراتيجية والأمنية للقطب الشمالي، فروسيا تعتمد كثيراً على ساحلها الشمالي الذي يمتد لـ 42 ألف كيلومتر على طول المحيط المتجمد الشمالي، وتملك روسيا عدداً من الموانئ أهمها مورمانسك على بحر بارنتس كونه خالياً من الجليد طوال السنة، ولكي تبدو الصورة أوضح يجب التذكير بأن المنطقة تحتوي على 60% من احتياطات روسيا النفطية، و80% من غازها الطبيعي، بالإضافة إلى 40% من احتياطيات الذهب، و90% من احتياطيّاتها من معدني الكروم والمنغنيز، بالإضافة إلى حوالي نصف احتياطيّاتها من البلاتين. هذه الأرقام توضّح أهمية منطقة القطب الشمالي لروسيا، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال في 2014: «كانت هذه المنطقة تقليدياً ولا تزال ضمن نطاق مصالحنا الخاصة. وتتركز هنا تقريباً جميع جوانب الأمن الوطني: العسكرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والبيئية، بالإضافة إلى الموارد». ثم أشارت العقيدة العسكرية الروسية في العام نفسه، إلى «حماية المصالح الروسية في القطب الشمالي».
حجم الثروات الهائل في المنطقة يحتاج بطبيعة الحال إلى بنية تحتية ملائمة ومرونة كافية للقوات العسكرية للتحرك والعمل لحمايته، ويفسر حجم خطط التنمية الروسية الموضوعة للقطب الشمالي، في المقابل تبدو الولايات المتحدة بعيدة جداً عن المنافسة، ففي مقابل 50 كاسحة جليد روسية موضوعة في الخدمة وتعمل جميعها على الوقود النووي، هنا كاسحتا جليد في أمريكا، مع بنية تحتية قديمة في آلاسكا لا يجري تطويرها كما يجب، ما يجعل الولايات المتحدة فعلياً خارج المنافسة وتبدو أدوات الضغط التي تمارسها قليلة الفعالية، فالمنطقة هي منطقة نفوذ روسي بالإضافة لكونها خياراً بديلاً لطرق التجارة المعروفة، أسرع وأوفر، ما يجعلها موضع اهتمام صيني وحتى هندي.
الغرب يحاول حصار روسيا
كل ذلك كان كافياً لتحاول الدول الغربية الضغط على روسيا من بوابة الشمال، وبدأت سلسلة من الخطوات غير الودية، رأت فيها موسكو تهديداً في مناطق نفوذها، وبدأت المضايقات في «مجلس القطب الشمالي» الذي يضم كندا والدنمارك وفنلندا وأيسلندا والنرويج وروسيا والسويد والولايات المتحدة، إذ أعلنت الدول الغربية ضمن المجلس في 3 آذار 2022 «أنها ستتوقف مؤقتاً عن المشاركة في جميع اجتماعات المجلس وجميع الهيئات الفرعية المتعلقة به»، وزادت في وقتٍ لاحق من الضغط وبدأت تتصرّف بشكلٍ منفرد ما دفع روسيا لتأكيد عزمها الدفاع عن مصالحها، ووصلت في شباط 2024 لتعليق مساهمتها المالية للمجلس إلى أن يستأنف عمله.
التطور الخطير الثاني كان في انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو وهما من دول القطب الشمالي وعلى هذا الأساس أصبحت الولايات المتحدة قادرة نظرياً على زيادة الضغط هناك ومن نقاط متعددة، وبدأ الحديث عن بناء قواعد عسكرية وبنية تحتية عسكرية، إلى أن بدأت دول الناتو في توسيع أنشطتها العسكرية أكثر ونفّذوا أول مناورة عسكرية في تاريخ الحلف باسم «تمرين التحدي القطبي الشمالي» بين 29 أيار و9 حزيران 2023، شارك في هذه المناورات 150 طائرة و2700 عسكريّ، وركّزت على تعزيز التعاون بين القوات الجوية وتطوير قدراتها على العمل في بيئة القطب الشمالي.
ثم جاءت بعدها واحدة من أضخم مناورات الناتو منذ عقود وهي «المُدافع الصامد» في 2024 بمشاركة 20 ألف جندي من 13 دولة من دول الناتو، وركّزت التدريبات على الإنزال البحري وتدريبات أخرى للتعامل مع التضاريس الصعبة في شمال النرويج. الأمثلة التي ذكرناها هي جزء من أنشطة عسكرية غربيّة عديدة جرى بعضُها الآخر على شكل تدريبات مشتركة كندية أمريكية في آلاسكا، وأخرى جرت في كندا بمشاركة دول أوروبية.
التعاون الروسي والصين
في إطار التعاون الاستراتيجي الشامل بين روسيا والصين كان من البديهي أن يكون القطب الشمالي واحداً من الميادين الأخرى، ونظراً لطبيعة التهديدات العسكرية القائمة كان الوجود العسكري الصيني إلى جانب الروسي نقلة نوعية في مستوى هذا التعاون، وأطلق البلدان عدة مناورات مشتركة ركّزت في البداية على تأمين الممر الشمالي من بحر اليابان في نيسان 2023، وأخرى في آب من العام ذاته، تهدف للتدريب على تأمين الممر الشمالي الشرقي، ونُفّذت مؤخراً تدريبات للقاذفات الاستراتيجية في منطقة قريبة من آلاسكا، ما أغضب الولايات المتحدة التي أرسلت بدورها مقاتلات للتعامل مع تلك التدريبات وتثبيت حضورها.
القطب الشمالي لن يكون استثناءً في ظل اشتداد المواجهات على المستوى العالمي، فهو من جهة قطعة مهمة من الأراضي الروسية وفضاء حيوي أساسي لا يمكن التفريط فيه أو التراخي في الدفاع عنه، ويمثل في الوقت نفسه طريقاً تجارياً مختلفاً عن الطرق التي اعتمدها وطوَّرها الغرب، وبالتالي يمكن استخدامه في أي لحظة من لحظات الصراع، فطريق الشمال يمكن أن يكون جزءاً رديفاً لشبكة طرق برية متطوّرة، تصل بين مناطق إنتاج الثروات والصين. وفي الحقيقة ما يجري هناك هو مرحلة أولى يمكن أن تتطور بسرعة إلى مستويات تصعيد لم يشهدها القطب الشمالي من قبل، والمثير للانتباه أنّ النشاط الروسي في تلك المنطقة لم يصل إلى المستويات التي كانت في الحقبة السوفييتية، وهو ما أكّده المحلل العسكري والعميد المتقاعد ميخائيل خودارينوك، فالنشاط الروسي انصبَّ في السنوات الماضية على إعادة فتح وتأهيل قواعد عسكرية كانت موجودة في الحقبة السوفييتية، وتركّز موسكو على تطوير القواعد الجوية ومحطّات الرادار، وتعمل على تحسين قدراتها الدفاعية لحماية شواطئها وطريق النقل الحيوي، وهو نشاط غير مرغوب بالنسبة للولايات المتحدة التي رأت دائماً أن تطوير قدرات البلدان في الدفاع عن مصالحها الخاصة يتناقض مع الاستراتيجية الأمريكية في نهب العالم!