الوجه الجديد لتركيا المعاصرة... أهمّ من نتيجة الانتخابات ذاتها

الوجه الجديد لتركيا المعاصرة... أهمّ من نتيجة الانتخابات ذاتها

انجلى غبار المعركة الانتخابية الرئاسية في تركيا كاشفاً فوز الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، بولايةٍ ثالثة توقّعها كثيرون رغم احتدام المنافسة مع مرشَّح المعارضة كمال كليجدار أوغلو. ومع الأخذ في الاعتبار الأهمّية الحاسمة لنتيجة الانتخابات، ثمّة بعض الجوانب الجوهرية التي تتجاوز حدود العملية الانتخابية، ولم يجرِ تسليط الضوء عليها في الوضع السياسي التركي الحالي رغم أنها لا تقلّ أهمّية إطلاقاً عن نتيجة الانتخابات نفسها.

الأمر المؤكَّد هو أنّ بداية الولاية الثالثة لأردوغان كرئيسٍ لتركيا في 2023 تختلف اختلافاً جذريّاً عن بداية ولايته الأولى في 2014 والثانية في 2018، وكذلك عن تولّيه منصبَ رئيس الوزراء لأوّل مرّة في 2003، حيث قطعت تركيا أشواطاً في تغيير اصطفافاتها السياسية الدولية والإقليمية.

خلال هذه الأعوام، جرى ماءٌ كثير بين تركيا والغرب، وشملت التوترات بين الطرفَين جميعَ جوانب العلاقة بينهما، ويمكن لأيٍّ كان التقاطُ الكثير من البراهين على العلاقة المتوتّرة بمجرّد الاطّلاع على الأحداث المتتالية منذ إسقاط تركيا للطائرة الروسية «سو-24» في الأراضي السوريّة 2015، وما نجم عنها من توتّرات سياسية داخلية تركية، وصولاً إلى محاولة الانقلاب العلنية الفاشلة في تركيا عام 2016، وما تلا ذلك من ضغوطات اقتصادية متتابعة على البلاد تزامنت مع توجُّه تركيا نحو «ضبط» العلاقات مع حلفائها التقليديين في الغرب وإبداء مرونة أكبر في تمتين العلاقات مع الدول الصاعدة رغم بعض الكوابح التي تلعب دورها بين الحين والآخر.

بين سطور الانتخابات الرئاسية في 2023، ثمّة العديد من المؤشرات التي لا بدّ من التركيز عليها، وربّما فتح مساحات لدراستها كلٍّ على حدة، منها:

أولاً: النسبة التاريخية لإقبال الناخبين الأتراك على المشاركة في انتخابات 2023 والتي وصلت إلى حدود 90%، مرتفعة من 88% في انتخابات 2018، و74% في انتخابات 2014 (بينما لا يزيد الوسطي العالَمي للمشاركة في الانتخابات الرئاسية عن حدود 63.8%) تعكس بشكلٍ جليّ حالة النشاط السياسي العالي للجماهير وعودتها إلى الشارع وإلى ساحة الفعل والتنظيم السياسي مجدَّداً.

ثانياً: إنّ نظرةً على الأحزاب السياسية الموجودة في المشهد السياسي التركي اليوم، ومقارنتها مع المشهد ذاته قبل ثلاثين عاماً، كفيلة بالتأكّد من أنّ الأغلبيّة الساحقة تماماً من الأحزاب قد تبخّرت ولم يعد لها حضورٌ في البلاد، وأنّ أحزاب المشهد الحالي جديدة بمعظمها. الأمر الذي يثبت مرّةً أخرى أنّ فضاءً سياسياً جديداً يولد وآخرَ قديماً يموت، وأنَّ التعبير عن هذه الحالة في الوضع التركي يتمثّل اليوم في استكمالِ القوى القديمة لعملية موتها واشتدادِ عُوْد القوى الجديدة في المجتمع.

ثالثاً: أثبتتْ مجريات الانتخابات وحجمُ التأهُّب الغربي المكثَّف إعلامياً وسياسياً لها، أنّ الاستدارةَ التركية نحو الشرق - والتي جاءت في أحد جوانبها كاستجابة لمحاولة الغرب تفجيرَ تركيا في 2016 - لَم تَعْنِ أنَّ مشاريع التفجير قد انتهت، بل لا تزال موجودةً على أجنْدَة العمل الغربية، بما في ذلك تلويح نخب الغرب بتحويل الانتخابات إلى احتمال ثورةٍ ملوَّنة في تركيا.

رابعاً: تعبِّر نسبُ التصويت المتقاربة بين أردوغان (52.15%)، وكليجدار أوغلو (47.9%)، عن أحد تفسيرات بطء الاستدارة التركية نحو الشرق، فالتقارب في الثّقل والوزن السياسي بين الطرفَين يوضّح أنَّ هوامش الحركة ليست مطلقة أمام من يحكم تركيا وأنّ ثمّة كوابح عديدة تحول دون الحركة السريعة، ولا سيّما أنّ وزنَ أنصار «تركيا الغربية» ليس صفراً رغم تراجعهم الكبير المستمر.

خامساً: يتّضح اليوم أكثر فأكثر أنّ عبارة «تركيا على مفترق طرق» لم تعدْ وصفاً أدبيّاً محضاً للإشارة إلى بعض التحوّلات هنا وهناك، بل باتت تؤشّر إلى تحوِّل عميق يجري أمامنا اليوم في الدور التاريخي لتركيا، وانتقالها من كونها أحد أذرع حلف الناتو ومخالب الولايات المتحدة في المنطقة، إلى كونها واحدةً من أكثر الدول انخراطاً في ترتيبات الوضع الجديد دولياً وإقليمياً رغم الكوابح التي تظهر بين الحين والآخر.

سادساً: تحت سطح السِّجال السياسي بين تركيا والغرب، يعود الحديث عن الدور التركي في التقسيم الدولي للعمل. فتركيا التي ظلّت بلداً نامياً إلى ما قبل عشرين عاماً تقريباً، نراها اليوم تتحوّلُ إلى رقمٍ يؤخَذ بعين الاعتبار دولياً، ذلك بسبب تنامي دورها في التقسيم الدولي للعمل وتغيّر طبيعته، على أرضية التوجُّه نحو تطوير الإنتاج ومراكمة التطوّر التكنولوجي. الأمر الذي يعني بديهياً أنّ التناقض بين تركيا والمركز الغربي يتجاوز حدود الخلافات السياسية ليطال المصلحة التركية بالعمق.

استناداً إلى العوامل السابقة جميعها، فإنّ الظرف واللحظة الراهنة يتطلّبان تسريعاً في استكمال الاستدارة التركية، وتجذيراً للتوجهات الاستراتيجية بما يلبّي تطلعات الشعب التركي ومصالحه الوطنية العميقة. وأياً كانت نتيجة الانتخابات فإنّ هذه الضرورة تفرض ذاتها على جدول أعمال القيادة التركية بوصفها الضرورة التي تجنّب البلاد تبعات التخطيط الغربي الدؤوب لإرباك تركيا وإعادتها إلى بيت الطاعة.