هل تقدّم العلاقات الروسية-الصينية شكلاً جديداً للعلاقات الدولية؟
الإقرار بأنّ تغيرات كبرى تعصف بالعالم، يستوجب قبول حقيقة أخرى، وهي أنّ هذه التغييرات لن تنحصر في جوانب دون أخرى، بل ستكون شاملة، فإنْ قلنا إنّ العالم الذي نعيش فيه يتبدل، فلا شك أنّ الشكل الذي عبّر يوماً عن «العالم القديم» سيتبدل هو الآخر، وفي سياقٍ كهذا يمكن أنّ نسأل عن العلاقات الدولية، هل يمكننا القول إنّ شكلها الجديد أصبح واقعاً؟
تقديم جوابٍ دقيق على أسئلة من هذا النمط يَفرضُ بلا شك النظر في عيّنة متنوعة، ومراقبة تطورها خلال مدّة زمنية كافية، قبل تعميم النتيجة. لكن الإطار الذي يجري تقديم العلاقات بين روسيا والصين خلاله في السنوات الماضية يستحقّ الوقوف عنده قليلاً.
«بكين-موسكو» منحنى العلاقات
بالرغم من التقارب الشديد بين البلدين، بقي توصيف شكل العلاقات بينهما غامضاً بعض الشيء. فلعب الاتحاد السوفييتي تاريخياً دوراً حاسماً في تطور الصين واستقلالها، ويدرك المطّلعون على تاريخ الحرب العالمية الثانية، والحقبة التي تلتها، أنّ الاتحاد السوفيتي، خلال المفاوضات مع بقية دول الحلفاء عقب انتهاء الحرب، دفع الأمور باتجاه حصول الصين على مقعدها الدائم في مجلس الأمن بعد إصرار الكتلة الغربية على منح فرنسا هذا المقعد، وفي هذه المعادلة ضَمِنَ الاتحاد السوفييتي نوعاً من التوازن، إذ حصلت الكتلة الغربية على 3 مقاعد وحصلت الكتلة الشرقية على مقعدَين. وهذا تحديداً ما كان له أثرٌ عظيم في دور ومستقبل الصين على الساحة الدولية لاحقاً، وهو ما أعطاها الإطار اللازم لتطوُّرها اللاحق عبر إطلاق طاقاتها الكامنة.
وإذا قلنا إنّ بداية تسعينيّات القرن الماضي كانت أخفض نقطة في منحنى هذه العلاقات، فقد كانت - في الوقت نفسه - بداية مرحلة صعود جديدة، بدأت مع ترسيم الحدود بين البلدين في 1991 ثم مرّت بمحطات مفصلية أخرى، أبرزها توقيع معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون في 2001. ومؤخراً لا يُغفِلُ المسؤولون من الجانبين أيّة مناسبة لإعلان أنّ مستوى العلاقات وصل إلى درجة قياسية جديدة متجاوزاً عتبةً تاريخيةً سابقة.
تحالف أم ماذا؟
ورد في البيان الختامي للقمة الروسية-الصينية الصادر من العاصمة موسكو في 21 آذار الجاري، ما يلي: «العلاقات بين روسيا والصين، بالرغْم من أنها ليست تحالفاً عسكرياً سياسياً مشابهاً للتحالفات التي أقيمت خلال الحرب الباردة، تتفوَّق على هذا الشكل من التفاعل بين الدول، وليست ذات طبيعة تكتلية وصدامية وليست موجّهة ضد الغير. العلاقات الروسية الصينية ناضجة ومستقرة ومكتفية ذاتياً وقويّة، وقد صمدت أمام اختبار وباء كوفيد-19 والوضع الدولي المضطرب، ولا تخضع للتأثير الخارجي، وتُظهر الحيوية والطاقة الإيجابية. إنّ صداقة الشعبين، التي تنتقل من جيل إلى جيل، لها أساسٌ متين، والتعاون الشامل بين الدولتين له آفاقٌ أوسع. وروسيا مهتمّة بصين مستقرة ومزدهرة، والصين مهتمّة بروسيا قويّة وناجحة».
يؤكّد الاقتباس السابق، أنّ قيادة البلدين تصرُّ على اختلاف شكل العلاقات بينهما عن الأشكال الأخرى التي عرفها العالم سابقاً، وتقدّم هذه الكلمات الصياغة الأشمل لطبيعة العلاقات الروسية-الصينية، ولعل أكثر ما يثير الانتباه فيها هو تقديمها بوصفها شكلاً أرقى من التحالفات التي عرفها العالم سابقاً. فحتى وقتٍ قريب كان يُنظَرُ إلى كلمة «حلفاء» بوصفها أقصى درجات التفاهم بين البلدان، لكن معناها ارتبط في الوقت نفسه بعلاقات غير متوازنة، لا يضمن فيها كلُّ «الحلفاء» مصالحَهم بالدرجة نفسها. ويظهر هذا بوضوح في كلّ الأحلاف التي أنشأتها وقادتها واشنطن، التي قدَّمَتْ مصالحَ الأخيرة على غيرها من الأطراف دائماً، لا بل إنّ «الحلفاء» في الحرب العالمية الثانية لم يتصرّفوا كذلك في كثير من الأحيان، إلى درجةٍ خلقت احتمال تحوّل النصر على الفاشية إلى فرصة ينقضّ فيها الجناح الغربي من هذا التحالف على الاتحاد السوفييتي.
«أرقى من تحالف»
فسّر البعض تحاشي موسكو وبكين استخدام مصطلح «حلفاء» عند وصف علاقتهما على أنه محاولة لتجنب الصدام مع الغرب الذي سوف يسعى لتحطيم هذا «التحالف» بعد الإعلان عنه، لكن الواقع يقول غير هذا. إذ إنَّ تحاشي استخدام هذا المصطلح يُرَدُّ إلى قصوره في التعبير عن المستوى الذي بلغتْه العلاقات، أو عن الآفاق التي يمكن أنْ يصل لها. فما يعيشه البَلَدان شكلٌ أرقى، يشمل تعاوناً في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. فحجم التنسيق السياسي في صياغة المواقف على الساحة العالمية غير مسبوق، وقدّم «الفيتو» المشترك الذي استخدم للمرة الأولى في 2007 أحد تجليات هذا التنسيق، ويشهد التعاون الاقتصادي وحجم التبادل التجاري بين البلدين على درجة التقارب وتقاطع المصالح. أما في الجانب العسكري فحرص الجيشان، الروسي والصيني، على تنفيذ مناورات دوريّة التي - إلى جانب أهميتها التقنية - ترسل إشارة سياسية-عسكرية مفادها أنَّ البلديَن قادران على العمل والتحرُّك معاً في هذا الميدان وفي مسارح عمليات متعدّدة سواء أكانت بحر الصين مثلاً، أو الخليج العربي، أو حتى الأراضي الروسية نفسها. بل إنّ تصريحاً جديداً لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو وضع الأمور في سياق أكثر وضوحاً. فبعد إعلان روسيا عن نشرها منظومة الصواريخ الدفاعية باستيون على جزيرة ضمن أرخبيل الكوريل، التي تعدّ منطقة استراتيجية قريبة من اليابان، قال شويغو إنّ الهدف من نشر منظومة الدفاع الساحلية المتنقلة هو: «التصدّي للمحاولات الأمريكية لاحتواء روسيا والصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ». أي إنّ الخطر الأمريكي المشترك كافٍ لجعلِ أحد مهامّ منظومة الصواريخ الروسية هناك، الدفاع عن المصالح الصينية إلى جانب المصالح الروسية.
تقدّم الصين وروسيا - بشكلٍ مقصود - نموذجاً جديداً للعلاقات الدولية، وتحرصان على تقديمه بعيداً عن القوالب السابقة. الشكل الجديد هذا يستند إلى الظروف المتشابهة لنشأة وتطور البلدَين، وإلى مستقبلٍ مشترك يعملان في سبيله. ويقدّم مثالاً فريداً لتحويل الحدود البرّية الطويلة إلى شبكةِ ربطٍ اقتصادي واجتماعي بدلاً من أنْ تكون خنادقَ محصَّنة، نجاحُ هذه التجربة يكفي لتعميمها، وهو ما سوف تثبته أو تنفيه السنوات القادمة.