الصدوع… تلك التي سبقت الزلزال وستليه
خضع الناس للزلزال، تماماً كغيره من الكوارث الطبيعية التي لا تزال عصية على الفهم أو التحكم أو حتى التنبؤ بحدوثها، الكارثة التي ضربت سورية وتركيا منذ أيام لم تخلّف عدواً واضحاً أمام الناس، فتبدو الأمور للوهلة الأولى كما لو أنها لا تحمل النقاش أو تحميل المسؤوليات فالكارثة لم تميز بين ضحاياها ولذلك لا جدوى من الاعتراض.
ما إن انقضت ثواني الكارثة حتى خلّفت وراءها الكثير، إلى تلك الدرجة التي يصعب معها حصر التبعات، وليس من المبالغة القول إن الثواني هذه ستضع أمامنا - في سورية تحديداً - أكواماً جديدة من المشكلات التي تحتاج الحل، ولا يخفى على أحد أن مشكلات من هذا الحجم تحتاج شهوراً وسنوات لحلها. وهنا تحديداً تبدأ ملامح الخصم الملام تتضح أكثر فأكثر.
لن نتحدث - رغم أهمية الموضوع - عن منظومة عالمية رأسمالية لم تول الاهتمام الكافي للأبحاث العلمية وعجزت رغم كل التطور عن صياغة آليات وتقنيات متاحة للاستجابة لهذه النوع من الكوارث، وبحثت دائماً عن أعلى معدلات للربح لا عن أي شيء آخر! ومع هذا ورغم أن الكارثة لم تميز بين ضحاياها تبيّن أن جزءاً ليس بقليل من وسائل الإعلام بدأت تمارس هذا التمييز فأصبحت خطوط تقسيم الأمر الواقع حداً فاصلاً بالنسبة لهم وأصبح السوريون مقسومين مجدداً على الرغم من مصائبنا المشتركة! وأعداد الضحايا والمصابين وحتى الأبنية المتضررة قدّمت لنا في إحصائيات منفصلة، وكان علينا مع كل خبرٍ جديد أن نقوم - نحن السوريون المقسّمون - بعمليات حسابية بسيطة لندرك حجم الكارثة التي ألمت بنا. ويعلم الجميع بالطبع، أن هذه الأخبار التي غزت وسائل الإعلام تعكس مصالح أباطرة الحرب وأولئك الذين تاجروا ويتاجرون بدمائنا حتى اللحظة. اليوم يجد السوريون مجدداً في سورية كاملة بشمالها الغربي والشرقي وأبنائها المهجّرين في جنوب تركيا وغيرها من الدول أنفسهم شعباً واحداً يقمعون الأصوات الناشزة.
أضاف الزلزال آلاف السوريين إلى قوائم التشرد وزاد من درجات الاحتقان في صدورنا، ورغم أنه كان عدواً بلا ملامح بدا الآن أكثر وضوحاً. فهذه الأبنية المتداعية التي تتساقط واحدة تلو الأخرى - حتى قبل الزلزال - وجهاز الدولة الذي جرى تقزيمه وبيعه حتى بات عاجزاً عن تقديم أبسط الخدمات حتى في الأوقات العادية، وحجم التصدع في قطاع الصحة والدفاع المدني، وغيرها من المصائب التي لم يكن الزلزال مسؤولاً عنها. الكارثة كبيرة وغير مسبوقة بلا شك، لكن الصدوع التي تهدد وجودنا، تجويعنا وإفقارنا، وحرماننا من أبسط احتياجاتنا هناك من يتحمّل مسؤوليتها، هم أنفسهم الذين سيعجزون عن تعويض كل المتضررين وتأمين الرعاية الصحية لهم، وإيجاد فرصٍ عمل وأماكن جديدة للسكن. ورغم الكم الهائل من المساعدات والمبادرات الشخصية التي قام بها آلاف السوريين لملء الفراغ الذي خلفه غياب جهاز الدولة تبقى المشكلة أكبر من أن تحل دون البحث في أصلها.
ينظر البعض إلى هذه الأفكار بوصفها متاجرة واستغلالاً للكارثة كما لو أنه بإمكاننا إيجاد أي مخرج من كل هذا دون الخوض مجدداً في قضيتنا المركزية، فلا مجال لإيجاد حلول لمخلفات الزلزال ولا المصائب التي سبقته دون تغيير هذه المنظومة وسياساتها تغييراً شاملاً، تغييراً يعيد دور الدولة الذي انسحب وتراجع خلال العقود الماضية ويضع عودة الانتاج على رأس الأولويات ويعيد توزيع الثروة لمصلحة منتجيها المنهوبين، عندها فقط لن يكون هناك ضرورة لتسييس أي كارثة طبيعية قادمة، أما الآن ودون التغيير المنشود، تفرض علينا الحياة تحميل المسؤوليات وصياغة المخارج.