إفريقيا ... الطريق نحو استقلال جديد
صرّح فرنسوا متيران في عام 1956 وقبل أن يصبح رئيسًا لفرنسا قائلاً: "دون إفريقيا فرنسا لن تملك أيّ تاريخٍ في القرن الواحد والعشرين"، فيما تكرر المضمون ذاته عام 2008 على لسان الرئيس الأسبق جاك شيراك الذي كان أكثر وضوحًا ومباشرةً في الأمر إذ قال: "دون إفريقيا فرنسا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث".
في 18 من كانون الثاني 2023، طالبت الحكومة العسكريّة لبوركينا فاسو فرنسا بسحب القوات الفرنسيّة المتمركزة في البلاد، إثر تظاهرات عارمة مُنذ أشهر ضد الوجود الفرنسيّ، للمطالبة بانسحاب فرنسا من هذا البلد الساحلي الذي يستضيف كتيبة من قرابة 400 من القوات الخاصّة، كما استهدفت التظاهرات الغاضبة السفارة الفرنسيّة والمركز الثقافيّ الفرنسيّ وقاعدةً عسكريّةً فرنسيّةً في بوركينا فاسو، بينما أوقفت السلطات البوركينيّة بث (راديو فرنسا الدوليّ) في كانون الأول الماضي بسبب بثه تقارير قالت أنّها "كاذبة".
تحوّل تاريخيّ
لا تُمثل التطورات الأخيرة سوى تسريعًا للعملية التي كانت جاريةً على أرض الواقع منذ زمن، وما "التحوّل العميق" الذي تجريه فرنسا لوجودها العسكريّ وفقًا للرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، إلا خسارةً لنفوذها في "قارّتها الاستراتيجيّة" تقليديًا وتاريخيًا، والذي يشهد تراجعًا جديدًا لا رجعة فيه، باريس التي كانت ولا تزال تتدخل بانتظام في الشؤون الداخليّة لمستعمراتها السابقة، من تنظيم انقلابات واغتيال سياسيين غير مرغوب فيهم ، وتقييد البلدان بشروط قمعية، و احتفاظها على مدى عقود بتأثيرها من خلال العلاقات التجارية والسياسية.
فبعد أن أجبر المجلس العسكريّ الحاكم في مالي القوات الفرنسيّة على الانسحاب العام الماضي ومن قبلها جمهورية إفريقيا الوسطى، حذا ضباط الجيش في بوركينا فاسو المجاورة حذوهم هذا الأسبوع، وطلبوا من باريس إفراغ حاميتها في الشهر المقبل، الأمر الذي يعني أنّ قرار إنهاء الهيمنة طويلة الأمد لفرنسا واتباع سياسة مُستقلّة عنها ليس ذا صلةٍ ببلدٍ محددٍ، بقدر ما يكشف تحوّلًا تاريخيًّا يطال كل القارّة الإفريقيّة.
الحرب على الإرهاب
يأتي تفسير هذا التأثير المتزايد للأعمال الاحتجاجيّة المُناهضة للوجود الفرنسيّ، كردّ فعلٍ على عقود من تدخل الغرب الجماعيّ الذي تسبب بأضرارٍ جسيمةٍ في القارّة، إذ إنّ إفريقيا لم تعد تحتمل وجودًا عسكرياًّ استعماريًّا قديمًا - جديدًا على أراضيها، ليُضاف فشلٌ آخر إلى قائمة فشل النموذج الغربيّ في "الحرب على الإرهاب"، والذي لم يُحررها منه ولم يُعد بناءها كما ادعى، بل على العكس كان الإرهاب غطاءً ممتازًا لنهب موارد مستعمراتها، حيث فرضت القوة الإمبرياليّة السابقة اتفاقيّاتٍ تربط اقتصاديّات هذه الدول باقتصادها، عدا عن الثروات الطبيعيّة المنهوبة من هذه المستعمرات، والتي كبّلتها نظير منحها الاستقلال باتفاقيات ومعاهدات إذعان عابرة للأجيال، ومن المفارقة أن تحتل فرنسا المرتبة الثالثة عالميًا في احتياطي الذهب وهي لا تستخرج جرامًا واحدًا منه من أراضيها؛ بل من أراضي مستعمراتها السابقة بإفريقيا، في حين تعيش بلدان مثل مالي والنيجر وتشاد في ظُلماتٍ وتخلّفٍ وانعدام الكهرباء، بينما تُضاء فرنسا وتنعم بتلك الطاقة لعقود بفضل اليورانيوم المسروق من تلك البلاد الفقيرة ظاهريًا والغنيّة جدًا بثرواتها الطبيعية.
نزع مخالب الغرب
تتسم هذه المرحلة التاريخيّة من التغير في ميزان القوى الدولي بسِمَة "نزع مخالب الغرب" وانفكاك الأطراف عن المركز، وهذا ما أصبح جليًّا في الواقع، فلم يكن أكثر السياسيين تفاؤلًا -ممن لم يُدرك بعد أنّ النظام العالمي يتغير- يحلم بأن تتخذ إفريقيا زمام المبادرة في طرد المستعمر القديم من بلدانها، إذ إنّ العالم قد تغيّر ومعه إفريقيا التي أفصحت في عدة مواقف وفي خيارات التصويت داخل الأمم المتحدة أنّها لم تعد منطقة نفوذ غربيّ كالسابق، فبدأت ومنذ زمن بالبحث عن حلفاء جدد وأكثر موثوقيّة، الأمر الذي ما زال تقبّله عصيًّا على الغرب الجماعي وهو يتلقى أشد الضربات تباعًا، فكان ولا زال يبذل محاولاتٍ علنيّةً متزايدةً للضغط على إفريقيا لمنع القارّة من التحول نحو روسيا والصين، في محاولةٍ منه لإجبارها على التخلي عن هذا التعاون أو إعادة تشكيله بطرقٍ تفيد الشركات الغربية فحسب، إلا أنّ حجم الشمال العالمي وهيمنته لم يعد قادرًا على تحقيق ذلك، لارتباط الدول الصاعدة بتحالف حتمي مع الجنوب العالمي بدافع مصالحهم السياسيّة والاقتصاديّة، هذا التحالف القادر على تجاهل تهديدات الغرب بالإجراءات القمعيّة والعمل في إنشاء نظامٍ عالميٍّ جديد متعدد الأقطاب.