فوضى رأس المال، من كولومبوس حتى أوباما
دخلت المنظومة الرأسمالية خلال العقود الماضية في مرحلة جديدة من سلّم تطورها، حيث آلت بها إلى أشكالٍ أكثر وحشية وأكثر تعطشاً للمال والسيطرة وتوسيع النفوذ (الذي تعدّى آليات توسيع الحدود الجغرافية السابقة ليستعاض عنها بمبدأ فرض السيطرة من بوابة الاقتصاد على وجه التحديد)، وخاصةً عقب تفكك المنظومة الاشتراكية المتمثلة بالكتلة الشرقية، والتي شكّلت عملياً المنافس الرئيسي لها.
وذلك لا يعني بالمقابل أن الرأسمالية كمنظومة عالمية، لم تُبنى على قاعدة العبودية منذ بداية نشأتها، ربما كانت بنسخة مخففة أو أكثر مراوغة في مضمونها، لكنّ ديمومة النظام الرأسمالي مبنية في جوهرها على الاستغلال، وتوسيع أسواق تصريف السلع عبر توسيع النفوذ الجغرافي (قديماً)، والنفوذ الاقتصادي (حديثاً). وتأتي الحاجة للنقاش والحديث عن الرأسمالية بنموذجها الأمريكي المعاصر كونه يعكس الطبيعة التي كانت عليها الرأسمالية منذ تفكك علاقات الإنتاج في الحقبة الإقطاعية وتشكل علاقات الإنتاج الرأسمالية وحتى اللحظة الراهنة. فالنُخب البرجوازية المسيطرة في المراكز حرصت على إجراء عمليات تجميلية عديدة للرأسمالية توسطت الفترة الممتدة منذ ولادة الطبقة البرجوازية من رحم التناقض مع أرستقراطية أوروبا في القرون الوسطى وحتى القرن الحادي والعشرين، وذلك بهدف تقليص حالات الرفض الشمولي للمنظومة عبر تجزئة الوعي الجمعي للشعوب وتحويله نحو إشكاليات تقنية منفصلة.
تزامناً مع رسوخ المنظومة الرأسمالية واستقرارها الطبقي، في القرن التاسع عشر تحديداً، أصبح العالم مسرحاً لسيناريو الأزمات الاقتصادية المتكررة بشكلٍ دوري، من ركود وانتعاش اقتصاديين ومن ثم الدخول في أزمة جديدة، لكنَّ الطبقة الناشئة حينها أدركت بعد تصفية الإقطاع بأن استمراريتها تعتمد بصورة رئيسية على استنزاف الطاقات الجماهيرية عبر توجيهها إلى مسارات ضيقة من الوعي، فقد عملت الرأسمالية خلال العقود التي خلت على إنتاج صفوف من كهنة الاقتصاد، كانت وظيفتهم الأساسية تتمثل في إقناع العامة بآلية عملها وبمنظومتها القيمية، بحيث يتحولوا إلى جوقة من المهللين للمال، والنزعات الاجتماعية التي يفرزها، كونه عماد هذا النظام الرئيسي، ويجري ذلك في المجتمع ضمن الأطر الحقوقية الضيقة (التي ترتكز إلى تمجيد الفرد على حساب حقوق المجموع)، مقابل تضاؤل فرصة بناء وعي طبقي حقيقي يقع خارج دوائر وعي النظام الرأسمالي وحدود مؤسساته وأجهزته.
وقف بول فاولكر -رئيس البنك المركزي الأمريكي إبان حكم الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر- داخل الكونغرس في تشرين الأول/أكتوبر عام 2008 في أعقاب الأزمة التي عصفت بمراكز رأس المال، ليقول في تعليقه أمام لجنة تقصي أسباب الأزمة الاقتصادية: “إنني مصاب بالذهول، فأنا أعرف بأن هناك خطأ ما في النظام، لكنّي لا أعرف ما هو”!! وكأن الأزمة التي ضربت مراكز المنظومة وانسحبت بتبعاتها الكارثية على معظم دول العالم، كانت حالة غير نظامية، أو بمعنى آخر أزمة عرضية خلقتها مسوغات خارجة عن أدبيات النظام ومنطق عمله البنيوي.
إمبراطورية الشركات، والإمبريالية الجديدة
اكتشف كريستوفر كولومبوس في رحلته الأولى عام 1492 والثانية عام 1498 القارة الأمريكية، والتي كان يعتقد أنها الهند حينها قبل أن يدرك أنه وصل إلى جزر الكاريبي والقارة الأمريكية الشمالية، ومع وصوله لتلك القارة، حمل معه العبودية والحروب لسكانها الأصليين، حيث كتب الراهب برتالومي دي لاكازا والذي عاصر تلك الحقبة، أنه بين عاميّ 1494 و 1508 قد مات أكثر من ثلاثة ملايين من السكان الأصليين الذي قضوا نتيجة الحروب والأعمال الشاقة التي نجمت عن الاستعباد القسري لهم. وبالرغم من أن الرأسمالية الحديثة في النصف الغربي من الكرة الأرضية، تتغنى بالدفاع عن “الحرية” وتأليه الفرد، إلا أن الاقتصاد الرأسمالي بمجمله قام على مؤسسة العبودية والتوسع الدائم بشتى الوسائل الممكنة. وقد تكون الإدارة الأمريكية التي نشأت لاحقاً في شمال القارة، سعت إلى إنهاء حقبة العبودية السابقة، إلّا أنها في الواقع اتخذت أشكالاً مختلفة تمترست خلف شعارات حقوق الإنسان والحرية، لكنّها بقيت واحدةً في مضمونها الطبقي الذي قامت بناءً عليه.
وبالرغم من أن العقلية الرأسمالية منذ لحظة نشوئها لم تنسلخ عن حمل الفوضى والعشوائية، فإن ذلك لم ينفصل عن الاقتصاد، تماماً كما لم يفصل الاستعمار عن السياسة، إلا أن السمة الرئيسية التي ميّزت حقبة صعود الرأسمالية كمنظومة عالمية -التي ترافقت مع المانيفاتورة وتنامي القدرات الإنتاجية بفعل الثورة الصناعية واختراع الآلة البخارية، وإدخال الكهرباء إلى مختلف قطاعات الصناعة كذلك، واكتشاف النفط بكميات هائلة تسمح بالإنتاج والتصدير للخارج- كانت (السمة) تتحدد في انفلات السوق العالمي أمام حرية المضاربة، والاحتكارات لاحقاً، وإطلاق يد الشركات الكبرى لتحقيق تلك الغاية، حيث استلزم تسيير العلاقات بين الدول وسياساتها الاقتصادية ضمن ذلك السياق أن يتم تحرير الأسواق وإزالة الحواجز الدولية – ليس بالمعنى الحرفي للكلمة – بغية تسهيل حركة البضائع وتنقل الأموال.
فعلى سبيل المثال، وبعيداً عن أية اصطفافات تاريخية، أجبرت بريطانيا الدولة العثمانية عام 1836 التوقيع على إتفاقية بالتاليمان Balta Liman والتي كان يقتضي بموجب بنودها تخفيض الضرائب الجمركية على المنتوجات الواردة، مما يعني تحرير التجارة والسماح للشركات المصنّعة بالولوج إلى أسواق جديدة لتصريف سلعها، كما أجبرت بريطانيا محمد علي في مصر التوقيع على ذات الإتفاقية عام 1841 مما أدى إلى هبوط إيرادات الدولة حينها بنسبة قاربت الـ 80% من مجمل الناتج المحلي.
وإذا عدنا بالتاريخ إلى الوراء قليلاً بمقارنة بسيطة، لوجدنا أن شركة الهند الشرقية تمثل بظروف وجودها نموذجاً شبيهاً بالشركات الكبرى في حقبة رأس المال الصناعي ورأس المال المالي، وذلك من حيث وظيفتها وآلية العمل التي تحكمها، إلى جانب المصالح التي تخدم من أجلها. ففي شهر ديسمبر من عام 1600 أصدرت ملكة بريطانيا، إليزابيث، مرسوماً ملكياً يقضي بتأسيس شركة الهند الشرقية البريطانية من اتحاد معظم كبار التجار في بريطانيا، وبالتالي إعطاء الشركة ميزة احتكار التجارة داخل حدود القارة الهندية وانطلاقاً منها إلى معظم مناطق العالم. وكما تمارس الشركات الكبرى في القرن العشرين والحادي والعشرين سلطة على الدول وعلى سياساتها الاقتصادية عن طريق الاتفاقيات والمعاهدات، بالإضافة إلى التوريط المالي في ديون الاستثمار والتنمية (والتي تتم عن طريق البنك الدولي بمِنَح تطوير البنية التحتية والقطاع الخدماتي وإدخال الاستثمارات الأجنبية)، فقد مارست شركة الهند الشرقية مهام الدولة تماماً، حيث امتلكت جيشاً ومستعمرات ومدن كاملة قامت بإنشائها خدمةً لأهدافها، منها مدينة سنغافورة في جنوب شرق آسيا، ومستعمرة سانت هيلينا في المحيط الأطلسي، والتي نُفي نابليون بونابارت إليها لاحقاً في عام 1815.
أمّا شركة الهند الشرقية الهولندية، فتم تأسيسها عام 1602 لينحصر لديها حق التجارة الاستعمارية مع آسيا، ففي عام 1669 كانت الشركة تمتلك أكثر من 50 ألف موظف وعامل فيها، إضافة إلى 40 قطعة حربية بحرية، ذلك إلى جانب وجود أسطول تجاري بحري يتكون من 150 سفينة. كانت الشركتان تعكسان طموح الإمبراطوريات التوسعية من جهة، وفي ذات الوقت مثلتا الذراع التنفيذي لمصالح التجار الذين قاموا بتأسيسها في البداية. وحتى الوقت الذي تمّ فيه حلّ شركة الهند الشرقية الهولندية في عام 1800 وشركة الهند الشرقية البريطانية في عام 1858، بقيت الشركتان تقدمان نماذج مطابقة للشركات الحديثة في مشروعها الإمبريالي، ولكن مع فرق الاختلاف في آليات التوسع والاستعمار وتطورهما المستمر، حيث بدأت الكارتيلات والتروستات بالتشكل من اندماج عدة شركات احتكارية في مطلع القرن العشرين، وتزامن ذلك مع تزايد أعداد المؤسسات المالية ونمو قطاع الخدمات المصرفية، مما تطلب ابتكار أنماط جديدة للهيمنة وفرض السيطرة على دول الأطراف. أمّا الشركات الكبرى قديماً فلم تتوارى عن استعمال قوة السلاح، بل لم تتنكر لفظاظة الإخضاع والاستعمار المباشر بهدف فتح الأسواق الجديدة لبضائعها، واستغلال موارد تلك الدول في دورة التصنيع والإنتاج.
مفاعيل الأزمة وعوارضها، قديمة متجددة
لم تكن أزمات الاقتصاد والانهيارات المالية حالة جديدة يختبرها النظام الرأسمالي حديثاً فقط، فقد عرف التاريخ انهيارات مالية حادة كانت مفاعيلها الموضوعية حدوث سلسلة من الانتكاسات في أسواق البورصة والمال كنتيجة مباشرة لممارسات اقتصادية مبنية على قاعدة من الأوهام، كتلك التي تمارسها الطبقة البرجوازية بمختلف تصنيفاتها وأشكالها عن طريق المؤسسات المالية الحديثة. فالأزمة ليست أخلاقية، بل هي أزمة بنيوية لا تنفكّ في كل مرة تهبط بها المؤشرات الاقتصادية لدولٍ بأكملها أن تعلن فشل الرأسمالية ومشروعها الذي لطالما نادت بأنه سيكتب نهاية التاريخ البشري.
فقد تأسست شركة South Sea في سبتمبر من عام 1711 على يد مجموعة من التجار والممولين بضمانة من الإمبراطورية البريطانية إعطاء الشركة وحدها حق التجارة عن طريقها في أمريكا اللاتينية، مقابل تغطية الشركة لديون الإمبراطورية. لكنّ الحرب البريطانية الإسبانية التي سبق انتهائها تأسيس الشركة بعامين، حالت دون بدأ الرحلات التجارية للشركة حتى عام 1717.
ارتفعت أسهم الشركة في يوليو من عام 1720 لتصبح قيمة السهم الواحد في التداول ما يعادل 1000 جنيه استرليني، بعد أن كانت قيمته الفعلية تساوي 100 جنيه في شهر يناير، حيث جاءت هذه النقلة على إثر منح مجموعة من الأمراء والمالكين لأسهم في الشركة وإشاعة ذلك، وفي غضون شهرين من نفس العام، عادت سعر سهم الشركة إلى ما دون الـ 200 جنيه لتصل قيمتها أخيراً في نهاية العام إلى 150 جنيه، نتيجة لشكف غطاء التداولات المالية التي يغلفها الوهم ومضاربات التجار والممولين، بحيث كان هذا الانهيار الاقتصادي هو أول فقاعة مالية يشهدها التاريخ، فقد تبعها مباشرةً فقاعاتٌ مشابهة في أسواق البورصة الأوروبية، ألحقت أضراراً كبيرة بالاقتصادات الناشئة وأدّت إلى ضرب الحركة التجارية بين معظم الدول لردحٍ طويل من الزمن. ويوضح الرسم البياني السابق الكيفية التي تمّ بها شراء الأسهم بفعل تأثير اقتصاد الوهم، والانسحابات التي تلتها، لتؤدي إلى إنهيار كبير في السوق المالي.
عند مقاربة شركة الهند الشرقية أو شركة South Sea، على سبيل المثال لا الحصر، بالشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات في عصر الرأسمالية الراهن، يتجلى لنا بوضوح أن نقاط التقاطع المشتركة بينهما كثيرة ومتشابهة من حيث المضمون، لكن يبقى الاختلاف الوحيد الذي يقف في صف الرأسمالية الحديثة هو تطور وسائل الإنتاج بوتيرة متسارعة وعجلة التكنولوجيا معها بالمحصلة، مما ساعد في توسيع آليات الاستغلال والمراكمة والربح السريع، وأدوات الهيمنة على دول العالم، وبالتالي فرض السيطرة من بوابات مختلفة استطاعت أن تفتح آفاقاً جديدة أمام الرأسمالية لتستغل كافة الفرص المتاحة في سياق تعزيز وجودها وتأبيد حكمها الطبقي في المراكز والأطراف على حدٍّ سواء.
نظّر فرانسيس فوكوياما للرأسمالية بقوله أن الحرب الباردة لم تنتهي وحسب، بل وذهب إلى التأكيد على أن انهيار المنظومة الاشتراكية يمثل نهاية الآيديولوجيا الشيوعية وسيادة الليبرالية، واضعاً بذلك حدّاً للتاريخ البشري كمنظومة اقتصادية وأخلاقية، ولكنّ التاريخ البشري نفسه أثبت مراراً الخلل الجسيم الذي ينخر في بنية هذه المنظومة، فالرأسمالية لم تعكس بالتأكيد طموح الإنسان الأخير، بل هي مرحلة عابرة كانت ضرورية، ولا بدّ من تجاوزها الآن.
حملت نهاية القرن التاسع عشر تدشيناً لحقبة جديدة من مراحل تطور الرأسمالية، والتي وصفها لينين بأنها الأخيرة في تلك السلسلة التي بدأت بالمركنتيلية، حيث يرسم الكثيرون الخط الزمني لانطلاقة تلك المرحلة مع بداية الحرب الأمريكية-الإسبانية على وجه التحديد، فقد أعلنت الولايات المتحدة الحرب على إسبانيا عقب غرق البارجة الأمريكية USS Maine في ميناء هافانا إثر انفجار بالمحرك، والذي وظفته أمريكا إعلامياً كهجوم عليها لتحشيد الرأي العام للدخول في حرب مباشرة مع إسبانيا. فقد كان الهدف الرئيس من الحرب هو توسيع النفوذ الجغرافي للولايات المتحدة عبر شنّ الحرب على المستعمرات الإسبانية، لكنّ الأهداف المعلنة كانت مغايرة تماماً للواقع، ذلك ليس بجديد في نمطية الإعلام الرسمي الذي تقوده الطبقة البرجوازية.
فالتركيبة الإمبريالية لمنظومة الرأسمالية تتكون من جانبين مترابطين جوهرياً، هما الانتقال إلى رأسمالية الاحتكارات والسوق المفتوح أمام حرية المضاربة ضمن سيرورة التطور التاريخي، مع النزوع إلى عسكرة العالم في سياق العولمة الاقتصادية للهروب من أزمات الكساد، إضافة إلى عملية توسيع الأسواق التجارية. وفي الواقع فإنّ النزعات الاستعمارية والطموح التوسعي أمور جاءت نتيجة لمجموعة من الأسباب المتداخلة أهمّها هو تطور قوى الإنتاج والتفاوت في توزيع الموارد على صعيد التقسيم الدولي، إلى الحد الذي جعل من الشركات متعددة الجنسيات شركات عابرة للقارات نظراً لضرورات الإنتاج الرأسمالي المعني بالتوسع الدائم، مما دفع ببرجوازيات المراكز الذهاب إلى تأسيس تحالفات عالمية لاحتكار الأسواق، حيث كتب الصحفي بول لويس في النيويورك تايمز عام 1998 في ذكرى البيان الشيوعي واصفاً عبقرية ماركس في رؤيته للاقتصاد العالمي بقوله: “عندما يزور القراء (المانيفستو الشيوعي) في عامه الخمسين بعد المئة، يفاجأ القراء سواءٌ كانت ميولهم نحو اليمين أم اليسار، بدقّة تعريف كارل ماركس للاقتصاد العالمي هذه الأيام”!
ومن جهةٍ اُخرى فإن مفهوم الإمبريالية في الأساس يحوي متناقضاتٍ عدّة من حيث منطق عمله، فهو يمثّل سياسة دولة وسياسة إمبراطورية في آنٍ معاً، سياسة دولة في تهيئة البيئة الملائمة لتراكم رأس المال من خلال آلية الاستقطاب على الصعيد العالمي، وسياسة إمبراطورية في خلق المسوغات باستمرار للدخول في الحرب بهدف غزو المزيد من الأسواق وتحرير المؤسسات التجارية للدول أمام سطوة الشركات العملاقة. ويميّز ديفيد هارفي هنا في كتاب “الإمبريالية الجديدة” بتحديد فترة صعود البرجوازية الإمبريالية منذ تجربة كومونة باريس عام 1871 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، التي بدأ مع نهايتها عهدٌ جديد من الهيمنة على دول العالم كان اللاعب الأبرز فيها هو الولايات المتحدة الأمريكية، فقد شرعت بتأسيس المنظمات الدولية لمواجهة ما سمّته بـ “خطر المدّ الشيوعي” حيث أقرت اتفاقية بريتون وودز -التي انبثق عنها صندوق النقد والبنك الدوليين- على تثبيت نظام الصرف بالدولار كقاعدة أساسية للعملات في سوق التداول المالي باستخدام مقياس ذهب-دولار، قبل التحول إلى البترو-دولار في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، مما جعل من أميركا قوة اقتصادية كبرى استطاعت أن تفرض هيمنتها عبر مزيج مركب من السياسات الاقتصادية ارتكازاً إلى أفضلية اللا-تكافؤ في القدرات الإنتاجية بين مراكز رأس المال والتخوم، إلى جانب آلتها الحربية ومنطق الاستعمار المباشر والاستعمار الجديد كذلك.
تحتل مسألة الشركات العملاقة ودورها حيّزاً كبيراً في قراءة معطيات المشهد ضمن الأبعاد الاقتصادية والسياسية للإمبريالية، ففي الحين الذي كانت تتشكل به الكونسورتيومات والكارتيلات والتروستات من جهة (وهي أشكال مختلفة لاندماج أو اتحاد عدة شركات قد تكون ذات تخصص واحد أو قد تختلف مجالات عملها بحسب طبيعة وتركيز الاندماج) مما يعطي انطباعاً بأن عهد المضاربات قد انتهى، كانت تلك الاتحادات ذاتها تدخل سباقاً محموماً في التنافس على احتكار السوق العالمي وإعادة اقتسامه، حيث قاد ذلك إلى تحفيز رغبات التوسع الجغرافي وتنظيم المجال بما يحقق مساحة أوسع من حرية المزاحمة التي تتوافق مع مصالح تلك الشركات العابرة للحدود.
إمبراطورية الشركات تهيمن من جديد
في تقرير صدر عام 1999 عن الحزب الجمهوري الأمريكي يقول فيه أنهم كانوا ينتظرون حادثة كبيرة بحجم بيرل هاربر والتي تمخض عنها انخراط أمريكا في الحرب العالمية الثانية، وذلك بالطبع لتبرير الدخول في غمار الحرب بداعي تصريف أزمة نهاية التسعينات الناجمة عن تقلص كمّي في الصادرات بفعل انخفاض حجم الطلب، فالشركات الكبرى هي المستفيد الأول من الحروب ومن تبعاتها الكارثية، حيث جاءت أحداث أيلول/سبتمبر بمثابة طوق النجاة الذي أنقذ اقتصاد الولايات المتحدة من الغرق في أزمة ديون جديدة وصلت إرهاصاتها الذروة في الربع الثاني والثالث من عام 2001 (أي قبل أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر) وتمّ تصريفها عن طريق إعلان الحرب على “الإرهاب” وبداية الحملات العسكرية باتجاه أفغانستان لتصفية ما صنعته أيديهم.
وتوالت المؤشرات الدالة على اقتراب أزمة مالية مقبلة قارعةً بذلك ناقوس الخطر في وجه النظام الرأسمالي العالمي والأمريكي بالتحديد، حيث أوردت مجلة “ذي إيكونوميست The Economist” البريطانية في أحد أعدادها قبيل أحداث برجيّ التجارة بعض الأرقام المتعلقة بمجموعة من الشركات متعددة الجنسيات أمريكية المنشأ والتي تشير إلى خسائر فادحة في حساباتها، حيث أعلنت شركة فورد Ford، أحد أكبر مصنّعي السيارات في العالم، عن خسائرها البالغة 752 مليون دولار للربع الثاني و 692 مليون دولار في الربع الثالث، أمّا شركة جنرال موتورز GM فقد أعلنت أن أرباحها قد تراجعت بنسبة 54% في الربع الثالث من العام ذاته، في حين قالت شركة Citigroup ، وهي من أضخم شركات الخدمات المالية، أن أرباحها قد انخفضت بنسبة 9% للربع الثالث من نفس العام. وبالمقابل قام رئيس المدراء التنفيذيين لشركة إنرون Enron للطاقة -التي كانت تعد من أضخم سبع شركات أمريكية المنشأ للطاقة والنفط- بتقديم استقالته في شهر آب/أغسطس بعد أن شعر بأن الشركة تلفظ أنفاسها الأخيرة، لتعلن إنرون إفلاسها بالفعل بعد ذلك ببضعة أسابيع تحت تأثير اقتصاد الوهم وعمليات التداول المالي الزائفة التي حجبت القيمة الفعلية لديون الشركة، بينما هبطت قيمة الأسهم السوقية لأكبر ست شركات في قطاع الاتصالات والتكنولوجيا على مؤشر بورصة ناسداك من ما مجموعه 2362 مليار دولار إلى 914 مليار دولار.
ويتبادر هنا إلى الذهن سؤال بصدد دوامة الأرقام تلك يتعلق في مسألة الربط بين خسائر الشركات الكبرى وفي الغاية من الحروب. وكمثال على ذلك، قد تكون حصيلة نتائج الحرب على العراق عام 2003 مؤشراً رئيسياً على دور الشركات العابرة للقارات في صياغة سياسات إمبراطورية الهيمنة الأمريكية، فالدور الذي تلعبه هذه الاحتكارات الضخمة بالتحالف مع النخب البرجوازية الحاكمة في توجيه سياسة الدولة، محوري من حيث عدم إمكانية هذه الشركات العملاقة حصر نشاطاتها التجارية والمالية داخل إقليم محدد بحكم طبيعة الاقتصاد الرأسمالي التوسعية، مما يعني أن نموّها المستمر وتراكم رأس المال لديها يتوقفان على سياسة الإمبراطورية آنفة الذكر. فقد فسّر لينين الكيفية التي تقوم بها الرأسمالية بتجاوز أزمات فرط التراكم والميل إلى تدني معدل الربح من خلال التوسع الإمبريالي، بحيث تعمل الحروب على إنعاش الاقتصاد بعد دخوله في دورة من الركود الناجم عن فائض في إنتاجية السلع مقابل انخفاض في الطلب عليها.
وبلغة الأرقام عودةً إلى العراق في ذلك، الأرقام الفلكية الضخمة، يمكننا أن نستشفّ الطبيعة المدمرة للرأسمالية الإمبرالية، سواءً في الأعداد الهائلة للضحايا المدنيين أو في النتائج طويلة المدى لتخريب وهدم البنية التحتية للبلاد وتفكيك البنية الفوقية (السياسية). وفيما يخص الشركات التي نالت نصيب الأسد من الحرب على العراق تتجلى أمامنا جملة من الأسماء البارزة منها شركة شيفرونChevron (تكسكو سابقاً) للنفط والطاقة، والتي ارتفعت أرباحها بنسبة 90% في الربعين الأول والثاني من عام 2004 بعد أن وقّعت عقود بيع نفط العراق، بالإضافة إلى شركة هاليبرتون Halliburton المتخصصة كذلك في مجال النفط والطاقة والتي سجّلت ارتفاعاً في الأرباح بنسبة 80% في الفترة ما بين الربع الأول من عام 2003 إلى نفس الفترة من العام التالي، أمّا شركة بكتل Becktel للإنشائات، والتي عُهد إليها إعادة إعمار العراق بعد الدمّار الذي خلفته أساطيل الحرب الأمريكية، فقد حققت زيادة في الإيرادات بنسبة 158% خلال الفترة نفسها بين عاميّ 2003-2004، في حين تضخمت قيمة أسهم شركة لوكهيد مارتنLockheed Martin أحد أكبر شركات تصنيع الأسلحة في الولايات المتحدة والعالم، بمعدل 300% بين عامي 2000 و 2004. وإلى جانب كل ذلك، تتأثر أيضاً نسب البطالة في الداخل بصورة ملحوظة بالحروب والأزمات، بيد أنها انخفضت تدريجياً بعد الحرب لتصل إلى 5.5% عام 2004 واستمرت بالتناقص حتى 4.6% لعام 2006 بعد أن كانت نسبياً أعلى من ذلك في العامين الذين سبقا احتلال العراق، لترتفع مجدداً إلى 9.3% بعد عام من الأزمة الاقتصادية سنة 2008، بحسب بيانات مكتب إحصائات العمل الأمريكي!
ينبغي أخيراً التعرض لإشكالية هامّة في مجرى كل تلك الأرقام والحقائق، بحيث تتحول الأسئلة المطروحة في محاولة فكّ لغز الرأسمالية إلى إجابات بحد ذاتها. فلمن لم يعرف شغل نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ديك تشيني Dick Cheney في فترة احتلال العراق منصب رئيس مجلس إدارة شركة هاليبرتون، أما مستشارة الأمن القومي حينها كونداليزا رايس فقد كانت عضواً في مجلس إدارة شركة شيفرون، بيد أن روبرت جاكسون، أحد المدراء التنفيذيين في شركة لوكهيد مارتن، والذي أسس في عام 2002 ما عُرف باسم “لجنة تحرير العراق” والتي ترأسها جورج شولتز، الرئيس التنفيذي لشركة بكتل، لتشكّل ورقة ضغط على الإدارة الأمريكية بدفعها قدماً نحو اتخاذ قرار الحرب على الأراضي العراقية، عبر توظيف كذبة أسلحة الدمار الشامل إعلامياً، إضافة إلى مسألة “ديكتاتورية” الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بحقّ شعبه، مما أيقظ إنسانية الإدارة الأمريكية واستدعى لذلك احتلال العراق وقتل ملايين العراقيين وتشريدهم من أجل “الديمقراطية” الأمريكية، وليس النفط!!!
سيناريو الأزمات الاقتصادية، وفشل المنظومة
من كولومبوس وحتى أوباما، عرف تاريخ الرأسمالية أسماء عدّة برزت تحت شعاراتٍ واهية وخطاباتٍ رنّانة، لكنها بقيت أسيرة القوانين الموضوعية للنظام وسيرورة تطوره، حتى وإن حاولت أن تلمّع تلك الصورة المشوّهة بطبيعتها، فالنظام الرأسمالي العالمي هو نظام مأزوم في منطق عمله نتيجة تناقضات داخلية حادّة. ولئن كانت أزمة عام 2008 أزمة بنيوية (أي على مستوى بنية النظام) كما وصفها سمير أمين، وكغيرها من الأزمات التي شهدناها، فإن سيناريو الأزمات الاقتصادية والانهيارات المالية لن يتوقف مهما بلغت محاولات ترميم المنظومة وإصلاحها، نظراً لتعذّر ذلك بل استحالته.
تعد أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي أحد أكبر الأزمات التي ضربت مراكز الرأسمالية خلال عقودٍ طويلة، وذلك من حيث حجم الأزمة ونتائجها الكارثية، ولم تقتصر تأثيراتها على الولايات المتحدة بصفةٍ خاصة، بل على معظم دول العالم، وبرغم كافة المحاولات التي سعت إلى انتشال أمريكا من الكساد الذي وصل ذروته بين عاميّ 1929 – 1932، فلم يستطع الرئيس الأمريكي حينها فرانكلين روزفلت القيام بذلك رغم اتخاذه خطوات عاجلة لإنقاذ ما تبقى من بنوك وشركات في مختلف القطاعات المالية والتجارية، حيث عمل على إصدار قانون طوارئ البنوك بعد عدّة أسابيع من استلامه للسلطة، لكنّ الأزمة كانت أعمق من ذلك إلى أن مستويات البطالة بقيت في أعلى درجاتها حتى الحرب العالمية الثانية، والتي ساهم حدوثها في رفع نسب التشغيل لينخفض معدل فائض القوة العاملة من 23.3% (أي ما يقارب 13 مليون أمريكي عاطل عن العمل) في عام 1932 إلى 1.2% عام 1944. وفي نفس تلك الفترة بين عامي 1929-1932 أعلن 5000 بنك أمريكي إفلاسه، في حين تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 45% مقابل هبوط مؤشرات قطاعيّ البناء والعقارات بنسبة 80% لنفس الفترة.
يُظهر الرسم البياني في الصورة تفاصيل الانفجار القياسي لنسب البطالة في ثلاثينيات القرن العشرين فيما عُرف باسم “الكساد الكبير” الذي ضرب الولايات المتحدة أولاً، ويرى ديفيد هارفي في معرض نقاشه لأفكار لينين حول مفهوم الإمبريالية التي تعتمد على تصحيح المكان بوصفها شكلاً لإنتاج الاستقطاب، أن الحل الأمثل لتجاوز أزمات فرط التراكم يكمن في التوسع الجغرافي وإعادة توظيف الفائض في مشاريع طويلة الأجل في إطار البنية التحتية، كالاتصالات وشبكات النقل والمواصلات، وهو ما لم يكن ممكناً تحقيقه دون دخول الحرب التي كانت قائمة أساساً، بحيث أصبحت حادثة ميناء هاربر والهجوم العسكري لليابان عليه ذريعةً لخوض اللعبة وفق شروط الولايات المتحدة وقواعدها. وبعد إنتهاء الحرب وخروج أميركا منها بنصرٍ كبير على الصعيدين الاقتصادي والسياسي تحديداً، تقدم وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال عام 1947 بمشروع لإعادة إعمار أوروبا الغربية وتأهيلها اقتصادياً لمواجهة فزاعة الخطر الأحمر، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى إنفاق مبلغ 12 مليار دولار خلال ثلاث سنوات منذ بداية المشروع الذي شاركت فيه 16 دولة في القارة الأوروبية تضررت من جراء الحرب، وذلك لإحكام سيطرتها على المنظومة العالمية ليصبح الثالوث الرأسمالي (واليابان من ضمنه، بعد أن ساعدتها أميركا على تصنيع نفسها لاحقاً!) بقيادة الولايات المتحدة، مركزاً للعالم بأسره!
ولا تزال الأبواب مفتوحة الآن للحديث عن الهيمنة الرأسمالية والأمريكية، وعن دور شعوب الأطراف في مجابهة الإمبريالية، حيث أن فوضى رأس المال ليس توصيفاً ميكانيكياً لحالة عرضية يمكن إصلاحها أو تحجيم آثارها التدميرية على العالم، فالفوضى والحروب والاستعمار وتخريب البيئة وانحلال أبسط أشكال القيم البشرية هو جزء لا يتجزأ من بنية الرأسمالية السائدة. ومن كولومبوس إلى ويلسن وروزفلت وترومان وريغان وصولاً إلى جورج بوش وأوباما، تتغير الوجوه وتبقى السياسات واحدة، وكما سبق أن أشرنا فالأزمة ليست أخلاقية، الأزمة بنيوية تقع في قلب النظام وفي صلب آلية عمله. والآن أكثر من أي وقتٍ مضى، يُطرح المشروع الماركسي-اللينيني والاشتراكية العلمية كبديل راهن عن فوضى رأس المال التي لا يمكن أن تولد سوى الحروب والأزمات والدمار!
المصدر: راديكال