لماذا يخافون الآثار السوفييتية ويسارعون لهدمها؟
تكمن أهميّة الآثار والنُّصُب والرموز لدى الشعوب السوفييتيّة كونها ارتبطت - ضمن ذاكرتها الشعبيّة - بتاريخها التحرّري الأول في منتصف القرن الماضي وحركة التحرر ضد النازيّة، وبناء الاشتراكية، وهو ما عمل عليه الغرب جاهداً لتغريب هذه الشعوب وضمان تبعيتها من خلال سحق ذاكرتها الجمعيّة ضمن ما يسمى «حروب الجيل الرابع».
من هانوفر إلى كامتشاتكا، ومن مودانجيانغ في منشوريا إلى باتينا في كرواتيا، تُكرّمُ عشرات الآلاف من المعالم الأثريّة جنود الجيش الأحمر الذين فقدوا حياتهم أو خاطروا بها في الحرب الوطنيّة العظمى، والتي تتراوح من علامات القبور البسيطة من خلال تماثيل الأبطال أو نُصُب الدبابات إلى المُجمّعات التذكاريّة الضخمة. لكن اجتاحت المشهد موجات من تحطيم الآثار والرموز السوفييتيّة في دول جمهوريات الاتحاد السابقة، كانت بداياتها في 1989/1991، وتلتها موجة ثانية في 2015 لتشتد أكثر في الوقت الراهن.
محو الذاكرة
أمرت السلطات اللاتفيّة، في الأسبوع الماضي، بهدم نُصُب تذكاري لذكرى تحرير ريغا من النازييّن، وكانت قد هَدَمت أحد آخر المعالم الأثريّة لفلاديمير لينين في البلاد في وقت سابق، كما أزالت نُصُبًا تذكاريًا تكريمًا للساعي الدبلوماسي السوفيتي ثيودور نيت في إستونيا، وتفكيك الدبابة التذكاريّة T-34 في نارفا، في حين هُدِم نُصُب تذكاري للجنود السوفييت في كلايبيدا، ليتوانيا، بالإضافة للعديد من الآثار في بولندا وأوكرانيا وتشيكيا وسائر دول البلطيق التي تحاول جاهدة دعم الهيستيريا المعادية لروسيا، وإعادة كتابة تاريخها وفق المنظور النازي.
في حين استطاع السكان المحليّون - في بعض الحالات - الاحتفاظ بنُصُب تذكاريّة للجيش الأحمر، إذ إنّهم يخشون محو ذاكرتهم التاريخيّة، كما يرونها إهانة لأسلافهم الذين قاتلوا إلى جانب السوفييت، وهذا ما حصل في مدينة غدانسك شمال بولندا عندما قررت الحكومة الإبقاء على دبابة سوفييتية من طراز T-34 في شارع النصر و عدم إزالتها بسبب ضغط السكان، إذ أعرب العديد من أحفاد الجنود البولنديين في زمن الحرب عن استيائهم، وأشاروا إلى أنّ أسلافهم ماتوا وهم يقاتلون مع السوفييت لتحرير بولندا من النازيين وأنّ الانتصار السوفييتي أدى إلى تلقي بولندا مجموعة من الأراضي والمدن الألمانيّة المهزومة بما في ذلك غدانسك وفروتسواف، كما أشاروا إلى أن الجيش الأحمر هو الذي حرّر أوشفيتز ومايدانيك والعديد من معسكرات الموت النازيّة الأخرى.
إعادة كتابة التاريخ
قبل وقتٍ طويل من تصعيد الوسائل الإعلاميّة الغربيّة الرئيسيّة الحرب الإعلاميّة ضد روسيا في بداية العام الحالي، كانت وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكية قد أرست أسس الصراع في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالميّة الثانية - الحرب الباردة، إذ أصبح حليف الحرب (الاتحاد السوفيتي) عدوًّا في حين غدا العدو (ألمانيا واليابان) حليفًا وثيقًا، حيث أدركوا أنّ انتصار السوفييت على الفاشيّة بعد الحرب العالمية الثانية أصبح أيديولوجيا مُهمّة تُوحّد القوى التقدميّة في جميع أنحاء العالم حول موسكو، الأمر الذي حدا بالغرب لإعادة تقديم النازيّة بشكلٍ جديد وتلميع بعض قادتها وأفكارها الذين سيوكل إليهم لاحقًا إتمام ما فشلت فيه هي سابقًا.
لتبدأ واشنطن من خلال التدخل في الشؤون الداخليّة للدول الغربيّة، بتدريب وكلائها وتقديمهم إلى السُلطة في العديد من هذه الدول، وتكوين تصوّر تابع لها في العديد من الأحداث الدوليّة مع موقفٍ معادٍ لروسيا، وليُصبح هؤلاء «السياسيّون» هم أنفسهم محرّكًا للروسوفوبيا «رُهاب روسيا» في أوروبا، وخاصّةً في دول البلطيق وبولندا وعدد من دول أوروبا الشرقيّة الأخرى، وألمانيا والهياكل الحاكمة في الاتحاد الأوروبي، ليعمل «الحلفاء الجدد» جنبًا إلى جنب بنشاط في إعادة كتابة التاريخ، ومحو دور روسيا في الانتصار على الفاشيّة من ذاكرة الجيل الغربي الشاب بكل الوسائل - استخدمت وكالة المخابرات المركزيّة الأقسام النازيّة من الحركة القومية الأوكرانية بقيادة ستيبان بانديرا لتفكيك الاتحاد السوفييتي وفقًا لتوصيف الوكالة نفسها - والتركيز بشكل خاص على إغفال بطولة الجنود والقادة السوفييت خلال الحرب العالمية الثانية وهدم الآثار التي أقيمت لهم في مختلف البلدان الأوروبية.
القتال مع الماضي
إنّ الغاية من هذه الحرب الشرسة ضد رموز الشعوب الاجتماعيّة والوطنيّة ليست الفصل بين الناس وذاكرتهم التاريخيّة فحسب بل تحطيمها بما تشكله من مستوى كامل للوعي الجمعيّ والذي هو أيضًا في ساحة المواجهة، وهذا ما يستحيل فعله بوجودها حاضرةً لا في ذاكرة من عاصرها يومًا، بل وفي الكتب والجامعات والساحات العامة والشوارع، فبالنسبة لهم وجود هذا الإرث لا يتماشى مع الأيديولوجيا التي تُلبس النازيّة عباءة البطولة والمقاومة.
فما يجري تصويره على أنّه «قتال مع الماضي» وتحرّر من الإرث الأحمر ما هو إلا قتالٌ على مستقبل ليس للفاشيّة موطئ قدم فيه، إنّ قتال الغرب في الظاهر لمنظومة البنيان الفوقي بما تتضمنه من الأفكار والإشارات والذاكرة الجمعيّة والإرث الشعبي، والتي نتجت عن نقطة اشتباك مفصليّة في القرن العشرين ليست إلا تجلّياً لقتال أشدّ ضراوة في الجوهر يجري على المنصّة التاريخيّة - بما فيها المعرفيّة والرمزيّة - والتي يتم العودة إليها ضمن مستوى أرقى وأعلى كون أنّ السياق التاريخي حالياً يفرض عملية نفي-نفي للمرحلة السابقة، أمّا هدم الرموز بحد ذاته فما هو إلا تعبير عن هجمة مُضادة من قبل الغرب الخاسر كردّ فعل بالمستوى نفسه من الأدوات ضمن جبهة الإشارات والرموز، لردع أيّ إمكانيّة لظهور نماذج إيجابيّة تشبه نماذج ورموز الماضي وتجريدها من أيّة قاعدة رمزية قد يبنى عليها لاحقًا، لتظهر هي ذاتها عندما تنضج ضروراتها في الواقع الموضوعي بأكثر الأشكال صُدَفيّة مُحدثةً اختراقات ولكن بشكل نوعي أعلى يتناسب وطبيعة الحاضر؛ كالجدّة آنا بظهرها المُنحني وعزيمتها التي لا تقهر، والتي تتكثف فيها الكثير من التقاطعات بالمعنى الرمزي بعلمها السوفييتي الأحمر وفِعلها العفويّ لتغدو رمزاً حيًا لاستمراريّة الأجيال في نضالها ضد النازيّة والفاشية.
يبدو أن الحرب الوطنية العظمى ومهمة السوفييت لمحاربة النازيّة لم تنته بعد، وحتى بعد أنْ ماتوا بقيت أثارهم وقبورهم تقضّ مضجع النازيّة، وهذا استمرار لتلك المعركة بالذات على المستوى الرمزي ولهذا السبب يمكن أن يفعل الغرب كل شيء حتى لو وصل الأمر لمحاربة القبور والآثار.