واشنطن تواصل نهب وتخريب أفغانستان بعد عام على انسحابها
رهام الساجر رهام الساجر

واشنطن تواصل نهب وتخريب أفغانستان بعد عام على انسحابها

قالها كارل ماركس ذات مرة: «يقول هيغل في مكانٍ ما إنّ كلّ الحقائق والشخصيات التاريخيّة العالميّة العظيمة تحدث مرتين، لقد نسي أنْ يضيف: المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة»، وكان انسحاب القوات الأمريكيّة من فيتنام هو المأساة، في حين أنّ انسحابها اللاحق من أفغانستان كان المهزلة.

«تذكروا، هذه ليست سايغون» كلمات قالها وزير الخارجيّة الأمريكي أنتوني بلينكن في خطابٍ متلفز، في 15 من آب/أغسطس 2021، اليوم الذي بدأت فيه القوات الأمريكية انسحابها المُذِلّ من أفغانستان، هذه الكلمات التي تعكس حقيقةً بالغة الأهميّة – ليس بالطريقة التي يقصدها طبعًا – بأنّ الوضع الأمريكي في كابول لم يكن قابلاً للمقارنة إطلاقًا، وتداعياته على مستقبل الولايات المتحدة ونفوذها العالمي أكثر خطورة من خسارة سايغون نفسها، والتي كانت تُعَدّ حينها انتكاسةً كبيرةً للولايات المتحدة في ذروة نفوذها.

سلوك قطاع الطرق

بعد عشرين عامًا، فشل النموذج الأمريكي في «الحرية وبناء الأمة» بشكل واضح في أفغانستان، هذا الفشل الذي واجهته واشنطن بحزم أمتعتها على عجل في آب العام الماضي، وإخلاء أفغانستان بعد أن أنفقت في العدوان عليها  2.26 تريليون دولار طوال الأعوام المنصرمة، والتي لم تحررها من الإرهاب ولم تعد بناءها كما ادعت، أما أسس «الديمقراطيّة الأمريكيّة»  التي رُوّج لها فيعرفها الجنوب العالمي بأسره حق المعرفة بحُكم التجربة، والتي تعني إدخال البلاد في حالة من الصراع والفوضى التي لا تنتهي حتى بعد الخروج، حيث عكست التقارير الدولية الواقع المرير في أفغانستان، فالبلاد تواجه أكبر أزمة إنسانيّة في العالم، لتتجاوز احتياجاتها احتياجات إثيوبيا وجنوب السودان وسورية واليمن، إذ إنّ 22.8 مليون شخص معرّضون لخطرٍ شديد، بينما يواجه 8.7 مليون شخص مستويات شديدة من الجوع، مما يشير إلى خطر جسيم لانتشار الجوع على نطاق واسع في البلد والذي سيقع 97% من سكانه في براثن الفقر قبل نهاية عام 2022، ورغم الصورة القاتمة التي رسمها هذا التقرير إلا أنّه لا يُسمَح للأفغان إلا أن يُعانوا بالطريقة التي يريدها الغرب لهم، لأنّ صور الفقر والجوع الذي يُنذر بموت مئات الآلاف من الأطفال قد لا تستفيد منها وسائل الإعلام العالميّة بالمقارنة مع الصورة التلفزيونية لمئات الأفغان وهم يتشبثون بجهاز هبوط الطائرة مثلًا.

لتواصِل الولايات المتحدة وحلفاؤها، حتى بعد الهروب المُخزي من أفغانستان، عزمها على إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر وتدمير أيّة إمكانيّة لتعافي البلاد، من خلال قرار تجميد الأصول الأفغانية – الذي صدر في بداية العام الجاري – والاستمرار في النهب والسرقة الذي لا يختلف عن «سلوك قطاع الطرق» كما وصفه سابقًا المُتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، في حين أعربت السفارة الروسيّة في واشنطن منذ ذلك الحين عن دعمها لمجموعة تضم أكثر من 70 اقتصاديًا من الولايات المتحدة ودول أخرى في الدعوة لإلغاء تجميد جميع الاحتياطيات الدوليّة للبنك المركزي الأفغاني، في نداء صدر في 10 آب الجاري من قبل مركز البحوث الاقتصادية والسياسية، وتقول السفارة الروسية: «نحن نؤيّد هذا النداء بشكل كامل واعتبار الوضع الذي تحجز فيه السلطات الأمريكيّة بصورة غير مشروعة الموارد الماليّة العائدة للشعب الأفغاني غير مقبول، في الوقت نفسه، نعتقد أنّ مساومتهم مع كابول بشأن شروط تخصيص نصف المبلغ لها أمر مثير للسخرية. تصرُّفات واشنطن تزيد من معاناة الأفغان الأبرياء».

الرواية الأمريكية

قررت الإدارة الأمريكيّة من جديد عدم الإفراج عن أيّ من الأصول الأجنبيّة البالغة 7 مليارات دولار والتي يحتفظ بها البنك المركزي الأفغاني على الأراضي الأمريكيّة، وتعليق المحادثات مع طالبان بشأن هذه الأموال تحت ذريعة مقتل زعيم القاعدة في موقع بالقرب من منزل مسؤول في طالبان، الأمر الذي يُظهر – وفق الرواية الأمريكيّة – عدم قدرة المسؤولين في طالبان على إدارة الأصول «بمسؤوليّة»، ودون الاكتراث لمصير كامل الشعب الأفغاني الذي هو المالك الحقيقي لهذه الأصول، ولما سيخلفه هذا القرار من آثار كارثيّة على الاقتصاد الأفغاني والتي عمدت على إبقائه معتمدًا بشكلٍ كبير على الخبراء والتمويل الأجنبي، حيث ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال، الإثنين الماضي، على لسان المبعوث الأمريكي توم وولف قوله: «إنّ المحادثات بين البيت الأبيض وطالبان بشأن الإفراج عن نصف الأموال على الأقل قد انتهت، بعد الضربة الأمريكيّة بطائرة مسيَّرة والتي قتلت زعيم القاعدة أيمن الظواهري»، ليتبادر للذهن التساؤل عن مشروعيّة استخدام الثروة السيادية لبلدٍ ما لسداد ديون كيان لم يتم الاعتراف به كحكومة ذات سيادة وتحميل هذه الخسارة لكل الأفغان! والذين بدورهم يتساءلون عن مصير تعويضات الأضرار الماديّة والبشريّة التي تسبّب بها التحالف المسلَّح بقيادة الولايات المتحدة على هذا البلد وشعبه عشرين عامًا، فعلى ما يبدو أنّ الحكومة الفيدراليّة الأمريكيّة قد فشلت في إيجاد آليّة تمويل مناسبة لضحايا أحداث 11 أيلول، لذا فهي تستخدم بدلاً من ذلك الأموال الأفغانية – غير المُجمّدة في الواقع بل التي تعمل بنشاط في اقتصادات الدول الغربيّة – تحت ذريعة قد أُعلن عنها دون أيّة أدلة تُثبت صحتها.

التفجير من الداخل

في ظلّ الظروف الجارية بدا أنّ واشنطن لم تستعدّ بعد للتصالح مع فقدان نفوذها في المنطقة، وهو ما يتضح من خلال نشاطها المُكثّف لتحويل آسيا الوسطى إلى ساحة مواجهة ضد نشاط الصين وتأثير روسيا في المنطقة، وضمان العُزلة الإقليميّة لإيران للسيطرة عن بُعد على الوضع في أفغانستان، وذلك من خلال الحفاظ على بؤرة توتر في وسط أوراسيا ومنظمة شنغهاي، وضمان تصدير زعزعة الاستقرار من أفغانستان إلى كامل المنطقة، عن طريق عدة جوانب أساسية أهمها العمل على عزل البلاد وسرقة أموالها كما أسلفنا سابقًا ودفع الأمور في الداخل نحو المزيد من التعقيد والفوضى، من خلال حثّ الأفغان – ضمن سياق التضييق عليهم – على الاعتماد على موارد أخرى للتمويل إما بإنتاج المخدرات أو عبر بيع مخزون الأسلحة الأمريكيّة الفائض، الأمر الذي لا يهدد في كلا الحالتين استقرار البلاد فحسب، بل استقرار آسيا الوسطى بشكل كامل وهو ما تسعى إليه أمريكا في سياستها تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

فيما يتمثل الجانب الآخر في الحفاظ على عدم الاستقرار في أفغانستان باستخدام مصادر مختلفة بالوكالة، الأمر الذي بدأ عبر دعم مجموعات وشخصيات مناهضة لطالبان، ولم يكن مصادفة في هذا السياق ظهور «عرّاب الفوضى» برنار ليفي بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي في أفغانستان، وبالتحديد في وادي بنجشير، لدعم أحمد مسعود نجل أحمد شاه مسعود قائد جبهة المقاومة الوطنيّة الأفغانيّة. وهي الجبهة التي تتألف قوّاتها من فلول القوات المسلّحة للجمهوريّة السابقة، والتي تم تدريبها وتمويلها من قبل الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى على مدار العشرين عامًا الماضية. كما واجتمع مسعود أيضًا في أوائل كانون الأول من العام الماضي مع مؤسس شركة بلاك ووتر العسكريّة الأمريكيّة الخاصّة إريك برنس، بالإضافة لسامي السادات الضابط السابق في الجيش الأفغاني، والذي خرج من الفراغ ليجري مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانيّة الحكوميّة BBC ليقول إنّه هو وعدد من العسكريين السابقين والسّاسة يجهّزون لشنّ حرب جديدة ضد طالبان، هذا ما تمّ التعبير عنه حينها بتقرير إخباري بثّته إذاعة صوت أمريكا VoA، كيف أنّ المقاومة المُناهضة لطالبان قد بلغت سنّ الرُشد بالفعل! هذا التوقع الذي يؤكّد على أنّ الحرب الأمريكيّة على أفغانستان لم تنتهِ بعد إلا أنّها قد اتخذت صيغةً جديدة وهي التفجير من الداخل.

بناء العلاقات

بالرغم من هذه البيئة الصعبة، إلا أنّ التطورات بشأن أفغانستان تُقدم إشارة واضحة على أنّ أيّ محاولة لفرض الهيمنة الغربيّة على آسيا سوف تُقَاوم من قبل دول المنطقة، وهو ما تمّ العمل عليه من قبل دول الجوار وفي مقدمتهم روسيا والصين من جهة احتواء ارتدادات الصدمة الناجمة عن الانسحاب السريع، ومن جهة أخرى احتواء سيناريو الانهيار الناتج عن الضغط الاقتصادي ومحاولات التفجير من الداخل في أفغانستان، والتي باتت أقل بما يتعارض مع المساعي الأمريكيّة وأتباعها في الغرب، وذلك عبر تكثيف الجهود لإعادة بناء العلاقات وإن كانت أقل من مستوى الاعتراف الرسمي، مع ما لا يقل عن 10 دول، بما في ذلك الصين وإيران وباكستان وماليزيا وأوزبكستان والمملكة العربية السعودية وقطر، حيث تمت دعوة الحكومة الأفغانية الجديدة لأول مرة في مؤتمر طشقند حول أفغانستان الذي عقد في الفترة ما بين 26 و27 تموز بدعوة من رئيس أوزبكستان شوكت ميرزيوييف وبحضور ممثّلي أكثر من 20 دولة ومنظمة دولية، والذي كانت الغاية منه تعزيز الأمن الإقليمي والتواصل في جنوب ووسط آسيا. هذه الروابط الإقليميّة بين وسط وجنوب آسيا وأهميتها كانت أيضًا مضمون الرسالة المُنبثقة عن اجتماع وزراء الخارجية حول القضيّة الأفغانيّة بين الدول المجاورة لأفغانستان، والذي عُقد في الأول من أيار هذا العام في تونشي بالصين.

أضحى من الجلي أنّ التوازن الدولي الجديد بدأ يفعل فعله في كثير من ملفات المنطقة، فرغم استماتة القوى الآفلة - ضمن أزمتها العميقة - بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء والحفاظ على بؤر التوتر أو خلق بؤر جديدة عبر زرع المزيد من الألغام بعد انسحابها، إلا أنّ الأمر بات يعطي مفعولاً عكسياً، ويحفّز القوى الصاعدة على استخدام قواها الكامنة أكثر، ليس عن طريق تأريض الصراعات في المنطقة والتعامل على مبدأ التعاون والتكامل وتبادل المنفعة المشتركة لتفكيك الألغام المحتملة فقط، بل وتحويلها لتصبح رموزاً للتحولات المستمرة والجارية في النظام العالمي الحالي الآفل.