البقاء في المياه المضطربة
رهام الساجر رهام الساجر

البقاء في المياه المضطربة

أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في سبتمبر الماضي أن "الرياح عادت إلى أشرعة أوروبا"، ولكن حتى الطقس -مجازياً- متغير بدرجة كبيرة، فمنذ زمن باتت تهب رياح باردة في وجه الاتحاد الأوروبي وتتقوى بسرعة لتتحول إلى عاصفة.

خلال الأسابيع الماضية أدلى المُمثل الأعلى لشؤون الأمن والخارجيّة في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل بجُملة من التصريحات المتناقضة، وذلك فيما يتعلق بالأوضاع في أوكرانيا، هذا التناقض الذي لا تقف حدوده عند بوريل نفسه بل تتعداه حتى عمق العلاقات داخل الاتحاد الأوروبي.

تناقض

أعرب مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الأمن والخارجيّة، جوزيب بوريل، في زيارته لكييف عن موقف لافت حول أولوية النصر العسكري على الحل السياسي للصراع في أوكرانيا "سوف يكون الانتصار في هذه الحرب في ساحة المعركة" معلناً أنّ معونةً بقيمة 500 مليون يورو إضافية من "مرفق السلام الأوروبي" في الطريق وسوف تلبي إمدادات الأسلحة الاحتياجات الأوكرانيّة.

وأكد بوريل في تصريح أدلى به قُبيل اجتماع لوزراء خارجيّة الاتحاد الأوروبي ترأسه الأسبوع الماضي في لوكسمبورغ استعداد التكتل للنظر بإجراءات جديدة لدعم كييف وتشديد العقوبات ضد روسيا، إلا أنّه وفي التصريح ذاته اعتبر أنّ "المعارك ستقع، إن اشترينا الغاز الروسي أم لا"! كما وتوقع تصعيداً عسكرياً في الفترة المقبلة، وقال إنه "يخشى أن تتجمع القوات الروسية في الشرق لشن هجوم على منطقة دونباس بعد أن سحبت موسكو قواتها من محيط العاصمة كييف..."، مع أنّه كان قد سبق وأعلن بعد زيارته لأوكرانيا في بداية الشهر الجاري، أنّه “يمكن الآن الذهاب إلى كييف بقدر ما تريد"!

وليناقض ما قاله الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في مقابلة مع صحيفة بيلد الألمانية، من أنّه "لا يزال يعوّل على المفاوضات مع روسيا" وأنه "اليوم، ليس أمام أوكرانيا خيار آخر سوى الجلوس إلى طاولة المفاوضات".

آلة حرب

ورداً على تصريحات جوزيب بوريل أعلنت الخارجية الروسية، أنَّ الاتحاد الأوروبي أصبح آلة حرب عدوانية لحلف شمال الأطلسي، حيث قالت المتحدثة باسم الوزارة ماريا زاخاروفا "يتحول عمل الاتحاد الأوروبي إلى نوعية مختلفة تماما - من تكتل اقتصادي ومنظمة إنسانية ومنظمة سياسية- أصبح هذا الهيكل جزءاً من الآلة العسكرية العدوانية لفضاء شمال الأطلسي، تحت مظلة الناتو بالطبع".

كما قال رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين "كان واضحاً للجميع في البداية ما هو الدور الذي أسندته واشنطن وبروكسل لأوكرانيا، واليوم أعلن الغرب صراحةً عن هدفه وما الذي كانوا يفعلونه منذ سنوات بتزويد أوكرانيا بالأسلحة ودعم الأيديولوجية النازية، مبدأ استمرار الحرب حتى آخر أوكراني، أصبح منهجاً رسمياً للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي".

وفي إشارته إلى المناقشات الجارية في الاتحاد الأوروبي حول "أول بوصلة استراتيجية دفاعية"، اعتبر وزير الخارجية سيرغي لافروف أنّ "النتيجة النهائيّة لكل هذا الاستقلال هي صفر، لأن كل ما يتم فعله يخضع لسيطرة الولايات المتحدة بالكامل، وليس للاتحاد الأوروبي دور مستقل خاص به، بما في ذلك الجهود المبذولة داخل الاتحاد الأوروبي".

أضرار مُدمّرة

ناقش سايمون تيسدال مُحلل الشؤون الخارجيّة في مقال له في صحيفة الغارديان البريطانية التأثيرات الاقتصاديّة للحرب التي تدور رحاها بين روسيا وأوكرانيا قد تكون لها تداعيات سياسيّة سلبيّة خطيرة على الزعماء في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.

وأضاف تيسدال أن تلك التأثيرات تجلت بالفعل في معدلات التضخم المتصاعدة وارتفاع تكاليف المعيشة، وأنّ الضغوط المتعلقة بأوكرانيا على القادة الغربيين تتصاعد في جميع المجالات وتساءل: إلى متى ستحافظ الديمقراطيات الغربية على مستويات الدعم الحالية التي تقدمها لأوكرانيا؟

ووفقا للكاتب، فإن صندوق النقد الدولي قد حذر الشهر الماضي من أنّ الحرب قد تسبب أضرارا "مدمرة" للاقتصاد العالمي فضلاً عن ركود عميق في روسيا وأوكرانيا ، كما وجاء في تنبؤ أحد التوقعات الذي نُشر الشهر الماضي بضربة 90 مليار جنيه إسترليني للمملكة المتحدة وحدها حيث يكافح المستهلكون والشركات للتعافي من الوباء.

البقاء في المياه المضطربة

إنّ الاستمرار في سياسة "عقوبات-تسليح" مع أنّ "الاتحاد الأوروبي وصل إلى الحد الأقصى لقدراته فيما يتعلق بالعقوبات المالية ضدّ روسيا" وفقاً للمفوض الساميّ، والمضي قُدماً بتوسيع موازنات التسلح على حساب "سياسات الرفاه الاجتماعي"، وذلك مع اشتداد الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الغرب وتدني معدلات النمو بالإضافة لانخفاض عائدات عمليات النهب لمستويات قياسيّة يعني التضحية بمصالحه الماديّة للحفاظ على وجوده واستمرار بقائه في القطب الإمبريالي، متجاهلاً العواقب الوخيمة الناجمة عن مكاسب الخضوع للهيمنة الأمريكيّة التي عملت بالتدريج من مرحلة الحرب الباردة وحتى الآن على التحكم بالوضع الأوروبي وبقياداته السياسيّة إلى حد بعيد.

هذا ما عبّر عنه رفض الاتحاد الأوروبي استكمال مشروع "نورد ستريم 2″ والإصرار على معاقبة قطاعي النفط والغاز الروسيين، واستبداله بالغاز الأميركي المُسال - الأغلى ثمناً من نظيره الروسي على جيوب المواطنين الأوروبيين- والّذي ينضوي تحت رغبة أمريكية لتحميل الخزينة الأوروبية فوق طاقتها وبالتالي إضعاف قدراتها التنافسيّة في المجمل، وقطع أواصر التعاون بين مجمل دول أوروبا وروسيا، ما سيؤدي حتماً إلى مضاعفة أسعار الطاقة على كاهل المستهلكين العاديين في القارة الأوروبيّة، كما يهدّد بزيادة حالة عدم الرضا الاجتماعي داخل دول أوروبا الغربيّة والوسطى.

في حين أنّ سوق الوقود الأميركي "غير مستعد لوقف استيراد وقود الديزل وزيت الوقود الروسي"، وذلك بخلاف ما حاولت الترويج له الإدارة الأميركية بداية الحرب، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة "تعاني من نقصٍ حاد" في هذه الموارد، فضلاً عن "عدم قدرتها على شرائها من إيران وفنزويلا" مثلما حاولت الإيحاء من قبل، فهي "لا تلتزم بوعودها الصاخبة" في سبيل الضغط الاقتصادي على روسيا، ولكنّها تطلب ذلك من دول الاتحاد الأوروبي ودول أخرى.

هنالك من لا يزال يعيش وهم الحفاظ على المنظومة الغربية بوصفها منظومة نهب عالمية كأمثال المفوّض السامي جوزيب بوريل وكتابه الجديد ، "البقاء على المسار الصحيح في المياه المضطربة" ، الذي جمع منشورات المدونات والخطب والمقالات حول التطورات العالمية الرئيسية في عام 2021، وعلى ما تم تحقيقه على الرغم من الوباء وما تبقى من عمل للاتحاد الأوروبي حتى يتحدث "لغة القوة" حسب وصفه، متجاهلاً غياب قرار وطني في أوروبا، وإذعان كامل الطبقة السياسية فيها لـ "سياسة العصا" الأمريكيّة، هذه الطبقة التي أيقنت مع بداية الأحداث في أوكرانيا بأنّ مستقبلها مهدد ومرتبط بـهذه "المعركة" بشكل مباشر، والتي قد يحل محلها مؤقتاً بدائل وهمية تمهيداً لتغييرات حتميّة تطالها كاملةً.

 

آخر تعديل على الجمعة, 22 نيسان/أبريل 2022 14:00