هل ستسمح المفاوضات النووية القادمة بالعودة إلى اتفاق 2015؟
أعلنت إيران ودول 5+1 أنّ محادثات «خطّة العمل الشّاملة المشتركة» في فيينا سيتمّ استئنافها في 29 من الشّهر الجاري، بعد فترة من توقف المفاوضات منذ استلام الرّئيس الإيرانيّ الجديد منصبه.
تستعدّ الدّول المبرمة للاتّفاق النّوويّ لاستئناف المحادثات والحديث الأساسيّ هو إحياء الاتّفاق الذي انسحبت منه الولايات المتّحدة في ظلّ إدارة ترامب الذي انسحب من الاتفاق وأعاد فرض العقوبات على إيران وشدّدها.
حالة التّصعيد الغربيّ سابقاً والآن في الملفّ الإيرانيّ وغيره من الملفّات العالميّة كانت وما تزال تعبيراً عن الأزمة الخانقة في المنظومة، ويأتي الملفّ النّوويّ الإيرانيّ ضمن الملفّات التي تُظهر لنا اختلاف الموازين الدّوليّة، وخصوصاً انتهاء حالة القطبيّة الواحدة التي سادت بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتي.
يمكن القول إنّ تطوّر هذا الملفّ سلك طرقاً متشعبة تاريخيّاً، ولم تكن كلّها مدعومة بتوازن دولي يسمح له بالسير بشكل مستمرٍ إلى الأمام؛ بدءاً من مرحلة كسر التبعيّة للغرب بعد الثّورة الإيرانيّة والعقوبات طويلة الأمد التي تعرضت لها إيران في أجواء ثلاثة مراحل مختلفة من التوازن الدولي... ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن ثم ما بعد انهياره وسيادة التسلط الأمريكي الأحادي على العالم، وبعد ذلك مرحلة التوازن الدولي الجديد الذي صعدت ضمنه مجدداً قوى كبرى من وزن الصين وروسيا.
وضمن هذه المراحل المختلفة، تمكنت إيران من انتزاع الإقرار بحقّها في امتلاك برنامج نوويّ سلميّ، وباتت أوراقها أقوى خلال العقد الماضي، مع تطور البرنامج نفسه من جهة، ومع تعمق تحالفاتها مع القوى الصاعدة وتراجع المعسكر الغربي على العموم.
جاء انسحاب الولايات المتّحدة من الاتّفاق في 2018، ومن ثمّ محاولة العودة إليه منذ استلام بايدن، في إطار محاولات أمريكا دفع الإيرانيّين لاتّفاق جديد بشروطٍ أفضل من وجهة النظر الأمريكية، لكن ما جرى فعليّاً هو أن السلوك الأمريكي قد دفع الإيرانيين لتقوية علاقاتهم مع الدّول الصّاعدة والانخراط معهم ضمن تحالفات كبرى...
بهذا المعنى، فإنّ محاولات الولايات المتّحدة اليوم إعادة إحياء الاتّفاق، ربما تتعلق ببضع استهدافات أساسية:
أولاً: فتح باب الحوار مع الإيرانيين وصولاً للعودة إلى الاتفاق السابق أو اتفاق مشابه له، من شأنه من وجهة النظر الغربية أن يحد من سرعة تعمق التفاهمات والتحالفات بين إيران والقوى الصاعدة، بل وبين إيران ودولٍ كانت حتى الأمس القريب احتياطاً غربياً صافياً، مثل تركيا.
ثانياً: الاتفاق بصيغته العائدة إلى عام 2015، يسمح برقابة مباشرة على البرنامج النووي الإيراني، أعلى وأشد من تلك التي تتضمنها الاتفاقيات الدولية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل والتي وقعت عليها إيران سابقاً؛ أي أنّ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018 وسع هوامش الحركة الإيرانية بما يخص تطوير برنامجها، وبات معلقون وخبراء عديدون يرون أنّ امتلاك إيران للسلاح النووي بات قاب قوسين أو أدنى في حال لم تتم العودة إلى الاتفاق سريعاً... مع أنّ العودة نفسها لم تعد تضمن وفقاً للخبراء أيضاً، ألا تتمكن إيران من امتلاك السلاح النووي في وقت غير بعيد
ثالثاً: ضمن إعادة التموضع الكبرى التي تقوم بها واشنطن، وفي ظل تراجعها العام، فإنّ منطقة الشرق الأوسط تتمتع بأهمية فائقة. وإذا كان القاموس الأمريكي للتعامل مع المنطقة تاريخياً قد تضمن «سياسة الأحلاف» في خمسينيات القرن الماضي، وبينها حلف بغداد في حينه، والتي كان الهدف المزدوج منها هو وراثة البريطاني والفرنسي من جهة، وتشكيل جبهة في وجه السوفييتي من جهة أخرى، بالتوازي طبعاً مع مهمة السيطرة على منابع النفط، فإنّ سياسة أحلاف أكثر تطوراً ليست مستبعدة في العقد الثالث من القرن العشرين، والذي يحمل تشابهات كبيرة مع خمسينيات القرن الماضي على الأقل لجهة التحول من توازن دولي سابق إلى توازن دولي لاحق، ولجهة أهمية دور منطقتنا في هذا التحول... خلاصة القول في هذه النقطة، هي أنّ الولايات المتحدة بينما تحاول صياغة حلف تحت مسمى «ناتو عربي» أو أياً يكن المسمى، يضم «إسرائيل» إلى جانب عدد من دول المنطقة، وخاصة الخليج ومصر، فإنها في الوقت نفسه ترى أنّ التركيز على هذا الحلف المفترض قد قرّب بين الأتراك والإيرانيين والروس أكثر، وحولهم إلى ما يشبه حلفاً حقيقياً في مواجهة مشروع حلف... كل ذلك يسمح بالاستنتاج أنّ الولايات المتحدة تسعى، بالتوازي مع الاستهدافات الأخرى التي هي اضطرارات بمعظمها، إلى خلط أوراق التحالفات مجدداً، لعل وعسى يسمح ذلك بضعضعة الطرف المقابل ومنعه من تثمير الانسحاب الأمريكي القادم من المنطقة.
خلال مؤتمر صحفيّ للمتحدّث باسم الخارجيّة الأمريكية نيد برايس يوم الأربعاء 3 تشرين الثاني/نوفمبر قال فيه نرحّب بإعلان الاتّحاد الأوروبيّ عن تنسيقه لكافّة المشاركين في المفاوضات حول العودة إلى الالتزام بالاتّفاق النووي واستئناف الجولة السّابعة من المفاوضات 29 تشرين الثاني/نوفمبر، ولا نزال نعتقد أنّه يمكن التّوصل إلى تفاهم بشأن الالتزام المتبادل بالاتفاق النووي بعد تسوية القضايا المتبقّية وإذا كان موقف الإيرانيّين جدّيّاً فسنتمكن من تحقيق ذلك بسرعة.
بينما قال المتحدث باسم الخارجيّة الإيرانيّة سعيد خطيب زاده: إنّه على الولايات المتحدة ضمان عدم انسحاب أي إدارات أخرى من الاتّفاق بشأن برنامجها النّووي، وقال إنّ مسار العودة إلى الاتفاق واضح وعليهم رفع العقوبات والحظر عن إيران بشكلٍ نهائيّ بعد أن فرضوه منذ انسحابهم بشكل ظالم وغير قانوني، والأهم حسب ما قاله هو ضمانات بعدم الانسحاب.
ومنذ فترة قال الرّئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إن بلاده لن تتراجع عن مطالبها حول رفع العقوبات وأنّ إيران لن تترك المفاوضات، فاليوم بالنّسبة للدّاخل الإيرانيّ يبدو من الصعب القبول بتنازلات للغرب في ظل علاقات اقتصادية وسياسية مع الصين وروسيا وتركيا وهو ما يسمح به التّوازن الدّولي.
وما جرى منذ أيام في خليج عمان ما هو إلا تعبير عن اختلاف موازين القوى ومحاولات للتّصعيد قبل الذّهاب للتّفاوض.
ومنذ أيام في بيان من الخارجيّة الرّوسية قالت إن الطّرفين يدعوان للعودة إلى الاتّفاق النووي المبرم عام 2015 بصيغته الأصليّة.
من القضايا التي يجب فهمها حول الملف الإيراني: أنه يبدو من المستحيل بالنسبة للولايات المتّحدة والغرب عموماً فرض اتفاق نووي جديد وشروط جديدة؛ فالغرب يعيش اليوم حالة تراجع وأمريكا التي وقّعت الاتّفاق في 2015 هي اليوم أضعف من تلك اللحظة لفرض شروطها، والمسار الوحيد أمام الأمريكي هو قبول الخسارة. ويبدو أن الأمريكي يعلم بهذه الإحداثيّات لكن هذه محاولات منه لتنظيم التراجع ليخرج من المنطقة بأقلّ الخسائر.