رحيل صباح فخري... أبرز ناشر معاصر للتراث الغنائي العربي
د. سعد الله آغا القلعة د. سعد الله آغا القلعة

رحيل صباح فخري... أبرز ناشر معاصر للتراث الغنائي العربي

رحل صباح اليوم، المطرب السوريّ الكبير صباح فخري، الذي توفي اليوم الثلاثاء 2 تشرين الثاني 2021 عن عمر ناهز 88 عاماً، ليبقى تراثه الفنّي والموسيقي الغنّي، ومساهماته الإبداعية والتجديدية الكبيرة، فضلاً عن توثيق التراث ونشرِه. تميّز الراحل الكبير بصوتٍ شجيّ، وبقدرةٍ صوتية استثنائية، وفيما يلي أبرز محطّات مسيرة الراحل الكبير كما وثّقها الدكتور والباحث الموسيقي سعد الله آغا القلعة في كتابه «كتاب الأغاني الثاني»...

كتب الدكتور سعد الله آغا القلعة في «كتاب الأغاني الثاني» تحت عنوان «صباح فخري: أبرز ناشرٍ معاصر للتراث الغنائي العربي!» ما يلي:

مطربٌ سوريّ أصبح أبرز ناشرٍ معاصر للتراث الغنائي العربي

وُلِدَ صباح الدين أبو قوس (صباح فخري) عام 1933 في حلب، أحد أهم مراكز الموسيقى العربية الاصيلة في الشرق العربي. عُرِفَ منذ سنوات عمره الأولى بصوته الجميل، كما تعرَّفَ في طفولته على أجواء الإنشاد الديني، فقد كان والدُهُ مُنشداً للتواشيح الصوفية، ما سمح له بحضور حلقات الذِّكر التي كان يقيمها المنشدون، وبحفظ ما كان يقدّم فيها من ألحانٍ وأناشيد.

درس الموسيقى في معهد حلب للموسيقى، الذي افتتحه الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة، على يد كبار الأساتذة في حلب، مثل الشيخ علي الدرويش، والشيخ عمر البطش، والأساتذة مجدي العقيلي وعزيز غنام ومحمد رجب، كما سجل بعض الأغنيات لصالح إذاعة حلب.

في عام 1947 أُعجِبَ بصوتِه أمير الكمان سامي الشوا حلبي الأصل، الذي كان في زيارة لحلب، فأشركَهُ في بعض حفلاته، واقترح عليه أن يسافر معه إلى القاهرة ليطرق أبواب الشهرة هناك. في الوقت ذاته أُعجِبَ الزعيم الوطني المحب للموسيقى فخري البارودي بصوته، ورأى ضرورة أن ينتقل إلى دمشق، ليتعلّم الموسيقى في معهدها الموسيقي الذي أُنشِئ حديثاً، وليكون قريباً من الإذاعة السورية، التي توسّعَتْ أعمالُها، بعد جلاء الفرنسيين عن سورية عام 1946.

فضَّلَ صباح وأهلُه انتقالَهُ إلى دمشق، برعاية فخري البارودي، ليدرُسَ في معهدها الموسيقي، حيث أهداه البارودي اسمَهُ ليصبح: صباح فخري. التقى في دمشق مع معلّمه عمر البطش، القادم من حلب، بدعوة من فخري البارودي، للتدريس في المعهد، فتابَعَ دراسة الموشّحات ورَقْصَ السَّماح على يديه، كما قام بتسجيل بعض الأغنيات لصالح إذاعة دمشق، ولكن التغيرات التي لحقت بصوته، في مراهقته، جعلته يعود إلى حلب ليستكملَ تعليمه، ومن ثم ليعمل في سلك التعليم، قبل أدائه الخدمة العسكرية، في نهاية الخمسينات عاد إلى نشاطه الفنّي وبدأ بإقامة الحفلات في حلب حيث ذاع صيته.

 

توثيق التراث

كان لافتتاح التلفزيون في دمشق في 23 تموز/يوليو 1960 أثره البالغ في مسيرته الفنية، حيث شارك مع زملائه المغنّين القادمين من حلب في البرنامج التلفزيوني "مع الموسيقى العربية" من إخراج جميل ولاية، الذي سعى من خلال البرنامج لتوثيق التراث الموسيقي المُختَزَن في حلب، من موشّحات وقدود حلبية، ومن أدوار وقصائد ومواويل.

اهتمّ في السبعينات بتقديم أعمال تلفزيونية موسيقية، كما في مسلسل (الوادي الكبير) مع الفنانة وردة الجزائرية، الذي قدم فيه قصائد وموشّحات جديدة، لحّنت على نسق الأصول التلحينية للموشّحات الأندلسية، من قِبَلِ كلٍّ من الأساتذة محمد محسن وعزيز غنام وعدنان أبو الشامات وأمين الخياط وإبراهيم جودت، واستعادَ اهتمامَهُ بالتراث من خلال مسلسل (نغم الأمس)، الذي سجّل فيه ما يقرب من 160 لحناً، ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وأغنية شعبية وقدٍّ حلبيّ، في جهد واضح لتوثيق التراث العربي الأصيل تلفزيونياً، كما قام بمحاولة تجديد التراث، من خلال إدراج مقاطِعَ لحنية جديدة، ضمن ألحانٍ قديمة محدودة المساحة، لإعطائها أبعاداً جديدة.

 

نشر التراث

اتجه منذ الخمسينات، وعلى خطٍ موازٍ لاتجاهاته في التوثيق، إلى نشر التراث الغنائي العربي عبر الحفلات، منطلقاً من سورية، ولبنان، فالدول العربية الأخرى، إلى أنْ أقامَ حفلتَهُ الشهيرة في قصر المؤتمرات في باريس في عام 1978 ونجحت الحفلة نجاحاً كبيراً، ثم تتابعتْ حفلاتُهُ الأوروبية، والأمريكية، التي قدّمها في أشهر قاعات الغناء في العالَم، ومنها قاعة نوبل للسلام في السويد، وقاعة بيتهوفين في ألمانيا، كما اهتمّ أيضاً بالغناء في المغترَبات وخاصة في أمريكا اللاتينية.

تجسَّدَ جديدُهُ في الحفلات، من خلال تقديمه لقصائد شعرية مُلحَّنة ومُغنَّاة من قِبَلِه، بشكلٍ مُرسَل، يقارِبُ الأسلوب المعمول به عند ارتجال غناء القصائد، وسرعان ما أصبحت تلك القصائد تطلب بلحنها المثبت، وطَبَعَ بأسلوبِه غالبية مُطرِبي التراث، واستطاعَ الاستمرار لأكثر من خمسة وستين عاماً، دون أن يفقدَ ألَقَه.

كّرمتْهُ جامعة كاليفورنيا عام 1992، في حفلٍ أقامتْهُ في قاعة "رويس" في لوس أنجلس، واعتبرتْ أسلوبَه في الأداء، مَرجِعاً مِعياريّاً للأسلوب التقليدي، كما سُجِّلَ اسمُهُ في موسوعة جينيس للأرقام القياسية، لِغِنائه عشر ساعات متواصلة، دون استراحة، في مدينة كاراكاس – فنزويلا عام 1968 مع استمرار تجارب الجمهور مع أدائه طيلة تلك المدة.

أقيمت له في مصر، عام 1997، جمعية فنية تضمّ محبيه ومريديه، وغدا نقيباً للفنّانين السوريين لأكثر من دورة، كما انُتُخِبَ عضواً في مجلس الشعب السوري عام 1998.

يتميّز صباح فخري بصوتٍ شجيّ، وبقدرةٍ صوتية استثنائية تمتد على مساحة 15 صوتاً، ذات جودة متماثلة، وبلفظٍ سليم، وبفهم لمعاني الكلمات، كما يتميّز بتحكّمٍ كاملٍ بتقنيّات التنفّس، وبمعرفة بالمقامات الموسيقية، والتنقل بينها في سلاسة ويُسر، وبالإيقاعات المُركَّبة، وبحفظ كمّ كبير من الموشّحات والأدوار والقدود والأغاني الشعبية، والتواشيح الدينية.

 

المصدر: «كتاب الأغاني الثاني» للدكتور سعد الله آغا القلعة